نوم عميق

خاص- ثقافات

*حسن حجازي

-1-
لا صوت يعلو على الصمت المتواطئ مع  جلاميد الضجر
الذي لم ينفك يحفر أخاديد سيتوارى فيها إلى الأبد جسد منهك من فرط ما توالى عليه من نكسات. .
الجسد الضامر لدرجة الهزال غير قادر على بث شكواه لبعض الغيمات المترائية من خلف الستائر البيضاء الشفافة..يبدو الآن أشبه بريشة مهملة تدروها الريح من مكان لآخر حتى تجد لها مستقرا لن يكون إلا بركة آسنة ملآى بالضفادع والحشرات وأكياس البلاستيك وأوراق الأشجار الذابلة. .
يبدو الجسد ذابلا حتى وهو في عنفوان الحياة التي لم يعد لها أي معنى أومبرر. .
الوجه ممتقع وشاحب،العينان متورمتان وغائرتان فيما الخدان ناتئان،أما الشفتان فمتورمتان تتخللهما شقوق غير متساوية ومتفاوتة من حيث الحجم. .
-2-
البياض لغة الألم، هو لون السرير والستائر والملاءات والجدران ووزرة الممرضة المتجهمة على الدوام. .
هو لون الليالي الطويلة ولون الأرق المستبد بالخلايا والأعصاب وكريات الدم،هو لون شعور نساء تلك القرية التي هجرها الرجال نحو صخب المدينة. .
يتحرك الجسد المنهك،تمتد اليد المرتعشة نحو قرص سمع له فوار بمجرد أن وضع في الكأس التي لم يكن بها إلا نزر قليل من الماء..
تتناول ما بالكأس ببطء شديد،تجول بعينيها في أرجاء الغرفة فيحاصرها البياض من جديد،كانت تتمنى لو اتخذت الغرفة لونا آخر كالبني المائل قليلاً إلى الحمرة الذي يذكرها ببيوت قريتها وبالتراب والجبل وبتلك المحفظة التي ناءت بحملها عدد سنين طفولتها المتوارية خلف سهوب الفجيعة.
-3-
كلما تحرك الجسد يمنة أو يسرة إلا وتنامى الألم فتحس على إثر ذلك كما لو كانت تحت رحمة آلة رهيبة مبثوت عليها عدة أسافين، كان يبدو لها النزول من على السرير كحلم أما بلوغها باب الغرفة فكان ضربا من الخيال،ضغطت على الزر الذي يوصلها بالممرضة التي لم تستجب للنداء فتناهى إليها بدلا من ذلك صوت أمها وهي تنوح متوسلة إليها أن ﻻ تغادر القرية وأن تكمل دراستها حتى تراها في تلك الوزرة البيضاء تكشف عن المرضى وتخففف من آﻻمهم وتصف لهم الدواء المناسب. .!
-4-
لاشيء يعلو على الصمت سوى هذا البياض الذي يؤدي العين الساهية،فتفيض بدمع ساخن ينسكب بهدوء وانسيابية فيملأ الوجه ويتسلل حتى العنق وبعد ذلك إلى الثديين الضامرين الآن النافرين الناهدين قبل بضع سنين لما كانا في أوج ينوع وقطاف ومتعة ولذة لكل الرجال الذين تعاقبوا على الجسد الذي ترهل وشاخ من فرط الإستغلال!
-5-
الممرضة المتجهمة على الدوام تدير مقبض الباب،ﻻتلقي التحية إذ ليس من عادتها ذلك،تتقدم من الجسد، تقيس الضغط ودرجة الحرارة ، تتأكد من عدم نفاذ السيروم،تنظر إلى الجسد الذي تظهر بعض تفاصيله من خلال البيجامة الشفافة،قبل أن تغادر كانت قد أغلظت القول على تلك الفتاة حين قالت لها بأن احتفاظها بالجنين سيجلب لها الخزي والعار وسوف يورطها في مشاكل هي في غنى عنها مقترحة عليها أن تخضعها لعملية إجهاض سري بثمن جد مناسب…
ران في الغرفة صمت طويل، إذ يبدو أن الجسد قد ضاق درعاً بالأرق واستسلم خلال شهقته الأخيرة المكتومة لنوم عميق عميق جداً. .

_______

*شاعر مغربي

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *