قد يبدو التساؤل الذي طرحه الشاعر والناقد شعبان يوسف لكتابه الجديد «لماذا تموت الكاتبات كمدا؟»، واحدا من الأسئلة التي لا تسعى إلى البحث عن إجابة مباشرة، بقدر ما تنفض التراب عن سياقات سياسية وثقافية واجتماعية أسهمت إلى حدّ بعيد في ما لحَقَ بالمرأة الكاتبة مِن تهميش وإقصاء وصل إلى حدّ الانتحار عند البعض، كما في حالة عنايات الزيات ودُرية شفيق وصولا إلى أروى صالح.
لعنة الجندر
الغريب أنه رغم حركات التحرُّر وهو ما عرف بـ”الفيمنيست” التي اهتمّتْ بقضية المرأة وخاصّة حقوقها السياسيّة والاجتماعيّة، إلا أنّها في ذات الوقت تغافلت عن حقوقها الثقافيّة، وغضت الطرف عن كون المرأة مبدعة، فلم تساو بينهما في الإبداع وحقوق النشر، بل كان نصيب المرأة هو التهميش والإبعاد.
ويُقرُّ شعبان يوسف في مقدمة كتابه «لماذا تموت الكاتبات كمدا؟»، الصادر عن دار بتانة للنشر القاهرة، بحقيقة مُؤْلمة مَفادها أنه على الرغم مِن أهمية قضية المرأة، وما تبعها من حقوق جاءت في معظمها شكليّة ومنقوصة، إلا أنّ الغُبن الذي لحق بالمرأة لم يقتصر على المرأة في واقعنا العربي، وإنما هي صفة عامّة اقترنت بالمرأة في مختلف البيئات والثقافات. فالمرأة عانت في العالم أجمع بل إن «التأويلات المُغرضة للنصوص التراثية تتحالف هي أيضا لقمع ذلك الكائن، الذي استضعفته كل الأبعاد الثقافية والاجتماعيّة والدينيّة» كما يقول شعبان يوسف.
إزاء هذا التاريخ الذي أقل ما يوصف بأنه عُنصري يجعل المؤلف قضية الكاتبة على مدى القرن العشرين هي قضية كتابه الجديد، وقد عالج فيه البعض من النماذج البارزة التي تحتاج حياتها إلى قراءات جديدة، وأيضا أعاد الاعتبار للنماذج المنسيّة، ومن ثمّ يعدُّ الكتاب خطوة مهمّة في كونه إضافة حقيقية لتاريخ الأدب، عبر تقديمه صورة متكاملة عن المشهد الإبداعي برصده المشهد الأدبي النسائي عبر كافة الكتابات التي كان لها حضور في القرن العشرين إلى الآن، وهي النتاجات التي أغفلتها العقلية الذكورية لأسباب ليست بأهمية رصدها هُنا. فيرصد تجارب إبداعية لأديبات مثل مي زيادة وملك حفني ناصف وعائشة التيمورية وشاعرات العامية وغيرهن ممَّن وهبن الكتابة حياتهن إلا أنَّها فتكتْ بهن وجعلت بعضهن يعيش على الحافة رغم نُبل القضايا التي ابتغينها منها.
أحد الجوانب المهمّة التي قدَّمها الكتاب أنه عكس السياق السِّياسيّ والاجتماعيّ والثقافيّ الذي عاشتْ فيه المرأة، ومدى هيمنة الذكورية التي حدت بعلم ورمز من رموز الفكر في قامة طه حسين آنذاك لأن يدخل معركة مع الرائدة النسائيّة دُرية شفيق.
يلفت الكاتب إلى صور الغُبن التي لحقت بالمرأة، فلا يقصرها فقط على مصادرة حقِّها في الكتابة، بل إنّ هناك صورا أكثر ضراوة لحقت بالمرأة كما في نموذج ملك حفني ناصف التي لحقها ضرر بدني ونفسي بعد زواجها. وكان للرجل أثر على النهايات الفاجعة للمرأة كما في حالات نعمات البحيري التي عمق زواجها من شاعر عراقي مأساتها وانتهى بهزيمتها بالسرطان الذي فتك بها، وبالمثل مي زيادة التي انتهت إلى العصفورية.
هناك نماذج مع الأسف تضافرت وسائل عديدة لاغتيالها معنويا في حياتها وبعد حياتها كما في نموذج نبوية موسى التي تضافرت عوامل كثيرة لمحاولة إقصائها ثم جاء بعد ذلك الكتاب الذي أنجزه محمد أبوالإسعاد ليوجه لها اتهامات باطلة، وصلت إلى حدّ وصفها بالعمالة مع الإنكليز، وأيضا وصفها بالطائفية. ونفس الشيء فعلته الدكتورة نوال السعداوي في مذكراتها. وهو ما يكشف أن التهميش والإقصاء لم يُمارسهما الرجال فقط بل والنساء أيضا. لم تكن السلطة بعيدة هي الأخرى عمّا حَاق بالمرأة الكاتبة فعندما حاصرت السُّلطة السياسيّة درية شفيق وأرادت قمعها انتحرت من الدور السّادس، وبالمثل أروى صالح.
ذكورية مجحفة
لا تقف دفاعات شعبان يوسف عن الأدب الرسمي، وإنما يدافع أيضا عن الشّاعرات العاميات، فيفطن خلال تَنْقِيبه في تاريخ الأدب أن كبار الأدباء والنُّقاد، كانوا لا يعترفون أساسا بكون المرأة شاعرة، وهو ما أعلنه العقاد وكان أكثر جرأة حيث جردّ النِّساء مِن قول الشّعر، فهي على حدِّ قوله «لا تصلح لكي تكون شاعرة»، ومع اختلاف الزمن جاء أحمد عبدالمعطي حجازي ليكرِّرَ ذات المقولة ولكن بصياغة أخرى. وبالمثل ميخائيل نعيمة الذي سَخَرَ مِن مي وكتاباتها بعد إلقائها خطابا في جامعة القاهرة، حتى هذا الهجوم ردّ عليه العقاد في مقدمته لكتاب “الغربال”.
تتكرّر محاولات الكُتَّاب للهجوم على المرأة وتجريدها من مكانتها ككاتبة، فنازك الملائكة تعرّضتْ للانتقاد الشّديد عندما أعلنت أنّها أوّل مَن كتبتْ قصيدة شعر حرّ في العالم، فهاجت عليها الدنيا وتمّ التشكيك في ريادتها، حيث كان ثمة ترصُّد سلطوي مِن الرّجال لتجريدها من الريادة وعندما فشلت محاولاتهم في نسب الريادة لشعراء آخرين لم تتحقق لقصائدهم الشهرة الكافية على نحو ما حدث مع قصيدة نازك، أخذوا يتصيَّدون ما ذكرته في كتابها عن بدر شاكر السياب، وريادته في مجموعته «أزهار ذابلة».
وفي ظل دفاعه عن المرأة، يعيد المؤلف للبعض من النّساء دورهن الريادي على نحو ما فعل مع شاعرة العامية فريدة إلهامي، والتي لا يذكرها المهتمون بالشعر العامي، ويشير إلى أنها جمعت أشعارها في ديوانيْن، مثلها مثل أليفة رفعت وليلى الشربيني وسهام صبري. كما ثمّة شيء إيجابي يذكره المؤلف وهو يسرد حكايات المُبدعات. وفي الحقيقة لا يغفل الكاتب في رصده لعلاقة المرأة بالكتابة وما تبعها مِن مُعاناة، كافة المجالات التي كتبتْ فيها المرأة سواء أكانت شاعرة أو ناقدة أو قاصة أو حتى ناشطة وكذلك المقاومة فغسّان كنفاني تعامل مع المناضلات الفلسطينيات بنوع العقلية الذكورية العربيّة التي غضّت الطرف عن دورها ومع الأسف عن عمد.
الخلاصة أن الكتاب غني بالمعلومات عن الكاتبات المجهولات وشذرات من حياتهن ومآلهن المأساوي، حتى وإن كان تاريخ النساء الكاتبات هو تاريخ معاناة، إلا أنه حافل بالمنجزات التي تُركت خلفهن فعلى الرغم مما لحقهن من ظلم، إلا أنهن لم يقفن مكتوفات الأيدي بل كن يقاومن لإثبات ذواتهن، فملك كانت تستصرخ النساء للمطالبة بالحرية، وأيضا كانت في كتابتها تدعو إلى التمرد والمقاومة والأهم أنهن جميعا واصلن الكتابة دون توقف، وهو ما يدخل الكتاب في دائرة تاريخ الأدب بامتياز.