نصّ الكلمة التي ألقاها بول أوستر، أحد أكبر الروائيين الأميركيين الأحياء، لدى تلقيه جائزة أمير إستورياس للآداب، وهي أرفع تقدير إسباني، وكان ذلك عام 2006.
في كلمته هذه، يطرح بول أوستر وجهة نظره القائلة بأنَّه رغم أن الروايات والقصص تعتبر أشياء “عديمة النفع على نحوٍ رفيع”، إلاّ أنَّ فعل الخلق ومتعة القراءة من أسباب المباهج الإنسانيّة التي ينبغي علينا الاستمتاع بها.
* * *
أنا لا أعرف لماذا أفعل ما أقومُ بفعله. لو أنني أعرف، ما كنتُ على الأرجح أشعر بالحاجة لفعله. كلّ ما يمكنني الإفادة به، وإني أقول هذا بيقينٍ مطلق، أنني شعرتُ بهذه الحاجة منذ صِباي المبكّر. إنني أتحدث عن الكتابة، بالتحديد، الكتابة بوصفها ناقلة لحكاية القصص، قصص خياليّة لم تحدث أبداً في ما نُطلق عليه العالم الحقيقي. بالتأكيد، إنها طريقة بائسة أن تقضي حياتك جالساً وحدك داخل غرفة بقلمٍ في يدك، ساعة بعد ساعة، يوماً بعد يوم، سنة بعد سنة، تناضل من أجل أن تضع الكلمات فوق صفحات من الورق في سبيل توليد ما ليس موجوداً – سوى وجوده في رأسك. لماذا يريد أحدٌ ما أن يفعلَ أمراً كهذا؟ الجواب الوحيد الذي استطعتُ الخروج به: لأنه ينبغي عليكَ أن تفعله، لأنه لا خيار لكَ.
هذه الحاجة للفعل، للخلق، للاختراع والتلفيق لحاجةٌ مبررُها، بلا أدنى شك، دافعٌ إنسانيٌ أوليّ. ولكن للانتهاء إلى ماذا؟ ما الخدمة التي يؤديها الفن، وتحديداً فن كتابة الروايات والقصص، لِما نقول بأنه العالم الحقيقي؟ لا شيء بحسب ما خلصتُ إليه ـ على الأقلّ ضمن المفهوم العملي. لم يكن أبداً لكتابٍ أن وضعَ طعاماً في معدة طفل جائع. ما كان لكتابٍ أن أوقفَ طلقةً من أن تخترقَ جسدَ ضحية قاتل. ما كان لكتابٍ أن حال دون سقوط قنبلة فوق مدنيين أبرياء وسط الحرب.
يحبُّ البعضُ الاعتقادَ بأنَّ إدراكاً قوياً للفن بمقدوره في الواقع أن يجعلَ مِنّا أُناساً أفضل – أكثر عدالةً، أكثر أخلاقاً، أكثر إحساساً، أكثر تفهماً. ربما يكون هذا صحيحاً، في حالات نادرة وحصريّة. ولكن دعونا لا ننسى بأنَّ هتلر بدأ حياته كفنان. وأن الطُغاة والمستبدين يقرأون الروايات. والقَتَلَة داخل السجون يقرأون الروايات. وأنَّ أياً كان مَن كان لا يستجلب لنفسه المتعة نفسها المتأتية له من الكتب كسواه؟
بكلمات أخرى، الفن عديم الجدوى، على الأقلّ عند مقارنته، لنقُل، بعمل السَّمكري، أو الطبيب، أو مهندس سكك الحديد. ولكن، هل عدم جدواه أمرٌ سيئ؟ هل الافتقار للغرض العَمَلي يعني بأنَّ الكتب واللوحات الفنيّة والآلات الموسيقيّة الوتريّة هي ببساطة مضيعة لوقتنا؟ الكثيرون يعتقدون ذلك. غير أنني أود الردّ بأنها الجدوى المعدومة من الفن نفسها هي التي تمنح القيمة لنفسها، وأن فِعْلَ الفن، بمعنى إنجازه، هو ما يميّزنا عن بقية المخلوقات التي تقطن هذا الكوكب، وهذا هو، تحديداً، ما يجعل منا كائنات إنسانيّة.
هو القيام بإنجاز شيء ما من أجل المتعة الخالصة والإحساس بالجمال نتيجة إنجازه. لنفكِّر بالجهود المبذولة، وبالساعات الطويلة في التمرين والالتزام، في سبيل التحوّل إلى عازف بيانو ضليع أو راقص ماهر. كلّ العمل المضني والقاسي والصعب، كلّ التضحيات من أجل إبداع شيء هو عديم الجدوى .. تماماً وبكل المقاييس.
توجَد الروايات والقصص في عالَمٍ ما يختلف عن غيره من الفنون. أداته اللغة، واللغة شيء نشتركُ به مع الآخرين، وهي مألوفة لدينا جميعاً. فمنذ اللحظة التي نتعلّم فيها الكلام، نبدأ بتطوير الجوع للقصص. إن مَن يستطيع مِنّا أن يتذكّر طفولته بمقدوره استعادة كيف كانت الحماسة باستمتاعنا وتلذذنا بلحظات قصص ما قبل النوم، حين كانت أمنا أو أبونا تجلس أو يجلس على الأرض بجانبنا في نصف العَتمة والقراءة من كتاب عن حكايات الجِنّيات.
أصحابُ الأُسَر مِنّا لا يجدون صعوبة في استحضار وخلق الانتباه الجَذِل والمنتشي في عيون أطفالنا عندما نقرأ لهم. لماذا هذه الرغبة العارمة في الإنصات؟ فحكايات الجِنّيات عادةً ما تكون صاخبة، وعنيفة، متسلسلة، وحشيّة، فيها تحولات متنافرة على نحوٍ بَشع وعمليات سحر شريرة. يعتقد الواحدُ منا أنّ هذه العناصر ستكون مدعاة للخوف الشديد في نظر طفل صغير، غير أن ما تتيحه هذه القصص للطفل، بالتجربة الواقعية، إنما هو مواجهة مخاوفه الخاصة وعذاباته الداخليّة في جوٍ آمن تماماً ومصون. هذا هو سحر القصص – ربما تجرّنا نحو أعماق الجحيم، لكنها في النهاية ليست مؤذية.
نحنُ نكبر، لكننا لا نتغيّر. نصبحُ أكثر تعقيداً، لكننا في العمق نواصلُ التشابه مع ذواتنا اليافعة، نتشوق لسماع القصة التالية والتي تليها، والتي بعدها. في كلّ بلَدٍ في العالم الغربي، ولمدة سنوات، تُنشر المقالات إثر المقالات تتحسّر حيال الحقيقة المشيرة إلى أن عدد قُرّاء الكتب في تناقص مستمر، وبأننا دخلنا ما سماه البعض “عصر ما- بعد الأدب”. ربما يكون هذا الأمر صحيحاً تماماً، لكنه، وفي الوقت نفسه، لم يقلل من التوق الشديد العالمي للقصص.
الروايات ليست المصدر الوحيد، على أية حال. فالأفلام والتلفزيون وحتّى الكتب المصورة تضخ كميات كبيرة من مرويات خيالية، والجمهور يواصل ابتلاعها بحماسة عظيمة. وهذا بسبب أنّ الكائنات الإنسانية تحتاج إلى القصص. تحتاج إليها بشدة مثلما تحتاج إلى الطعام بصرف النظر عن المواضيع التي تقدمها – إنْ كانت في صفحة مطبوعة أو على شاشة تلفزيون – فإنه من المستحيل تخيّل حياة خالية من القصص.
والآن، عندما يصير الحديث عن الرواية، عن مستقبل الرواية، فإني أشعر بتفاؤلٍ كبير. فالأرقام ليست هي التي تخضع للحصر عند التطرق للكتب، ذلك لأن هنالك قارئا واحدا، في كلّ مرّة وعند كلّ مرّة هنالك قارئ واحد. وهذا ما يفسّر القوة المخصوصة للرواية ولماذا، في رأيي، لن تموت كشكل. كلّ رواية هي تشارُكٌ متعادل بين الكاتب والقارئ، وهي المكان الوحيد في العالم حيث يمكن لغريبين أن يلتقيا فيه وأن يقيما علاقات متبادلة من الأُلفة الخالصة.
لقد أمضيتُ حياتي في حوارات مع أناسٍ لم أرهم على الإطلاق، مع أناسٍ لن أعرفهم أبداً، وآمل أن أستمر في هذا إلى اليوم الذي أتوقف فيه عن التنفس.
إنه العمل الوحيد الذي أردته لنفسي.