حكاية موت أبي

خاص- ثقافات

*د.محمد عبدالحليم غنيم

 (1)

كان أبي مولعاً بالنساء ينتقل بينهن تنقل الفراشة من زهرة إلي أخرى مع أنه كان عفيفاً . هذه معادلة رياضية صعبة الحل ، لقد كان معجباً بجمالهن ، يضاحكهن ويغازلهن فى مرح ، لدرجة أنه كان يفعل ذلك مع بعض نساء قريتنا أمام أزواجهن ؛ لكن أن يحب أبي حباً حقيقياً ، فهذا ما لم يفعله حتى مع أمي .

فى الواقع لم يكن له أعداء ، إذ كان لا يؤذي أحدا البتة ، وربما كان له أعداء دون أن أعلم ! كانت هناك  قلة صغيرة تختلق الحكايات الكاذبة عن أبي ، التي لو صدقها أهل القرية ، وبالذات من تمسهم هذه الأكاذيب من قريب أو بعيد ، لأردوا أبي قتيلا لا محالة! .

لكن حدثا مهما غير أبي : تحول ضحكه ومزاحه وإشراق وجهه  إلى حزن وكآبة وانعزال ، استدر الشفقة عليه من الكبير والصغير فى قريتنا على السواء، وأصبح كل من يتذكره يمصمص شفتيه فى تأثر ظاهر . كنت أرى  كل ذلك فأعجب لهؤلاء الذين لا يريدون أن يتركوا الرجل في حاله.

كان هذا الحدث مجيء خالتي حسنية إلى القرية .

كانت لي خالة شابة ، أسمها حسنية ، تزوجت من رجل عجوز أكبر منها سناً ، لم تمكث معه سوى ثلاث سنوات ، ثم عادت لتعيش بيننا كواحدة منا ، كانت أسرتنا تتكون من أبي وأمي ، وأنا ، وإضافة فرد آخر لا يؤثر فى نظام معيشتنا .. ثم أنها خالتي شقيقة أمي .

قيل أنها هربت من زوجها العجوز الذي لم تطق حياته ، لأنه يغير عليها ( من هدومه ) وأنها ليس لها ذنب في ذلك ، أما ألسنة السوء ، فكان لها رأي آخر ، إذ قالت : أنها تحب شخصاً. أفندي من ” البندر” قريب لزوجها كان يتردد عليهم كثيراً .

حاولت أمي – وأبي يؤازرها – أن تعود خالتي إلي زوجها ( وبلاش فضايح ) لكنها أصرت علي عدم العودة ، وكانت تردد فى كل جلسة: يسبني في شرفي وأرجع له ؟! لا .. أبداً ..

بهذه العبارة القاطعة كانت خالتي تسكت كل من سولت له نفسه أن يقنعها بالعودة إلي زوجها ( والصلح خير ) حتى أبي .. لكن يبدو أن أبي لم يحاول الضغط عليها . ربما لأنه لم يكن راغباً – منذ البداية – فى زواجها من هذا العجوز ، مع أنه رجل ظريف ، كثيراً ما كان يجعلنا نمسك بطوننا من الضحك من نكاته اللاذعة .

أصرت خالتي علي الطلاق ، وتم لها ما أرادت . وكان يومها كئيباً ، رأيت فيه أمي لأول مرة  تبكي بصوت مرتفع ، وقد بكيت لبكائها ، أما خالتي فكانت تخفى شعوراً حزيناً في أعماقها ، حاولت أن تبدو طبيعية ، فكانت كمن فقد جاراً غير عزيز عليه . حاول أبي أن يخرجها من حزنها .. داعبها فاستجابت بعد وقت قصير .

-2 –

الأيام كالرياح ، وخالتى حسنية تعيش بيننا سعيدة هنيئة ، ونحن أيضا سعداء بها ، تشيع في البيت جواً من المرح ، تسهر معنا إلى ساعة متأخرة من الليل أمام التليفزيون ، وعندما ينتهي الإرسال ندير الكاسيت ، وفي كل هذه المرات كان أبي يشاركنا بمزاحه ومداعباته ، ويبدو أنه كان أسعدنا جميعا أضحي يطيل الجلوس في البيت علي غير مألوف عادته ، فهو في غالب الأيام يكون فى المقهي ، أو فى سهرات خاصة مع أصدقائه من الرجال أما أهل السوء – سامحهم الله– فكانوا يدعون أنه يذهب إلى المدينة حيث النساء ..

جمال خالتي يزداد تألقاً – هي بشهادة النساء قبل الرجال من أجمل نساء القرية – فى كل يوم كانت تبرز من مفاتنها ما يثير أشد الرجال تحفظا ، أضحت حديث القرية . وكان وجه أبي يزداد إشراقاً بينما تزداد أمي حزناً وكآبة ، رغم مداعبة أبي لها من حين لآخر، و \على الرغم من التصاقي بها حاولت أن أعرف السبب .. وجدت أمي تنظر إلى خالتي باحتقار إذ كانت تبدي استياءها دون تحفظ من ضحكاتها العالية – كانت لخالتي حسنية ضحكات رنانة مثل ممثلات السينما – وكنت أعجب لتقبل خالتي استياء أمي بصدر رحب ، فقلما كانت تعلق على تصرفات أمي ( فهي أختها الكبيرة مهما يمكن ) هذا فقط ما كانت تقوله .

لم يعد أبي يخرج من البيت .. افتقده أصحابه وهم كثيرون ؛ جاءوا ليسألوا عنه ، فكان يتعلل لهم بحجج واهية . وكثيراً ما كان يجعلني أخرج لأقول لهم إنه ليس موجوداً ، وأنه ذهب في مشوار بعيد، ولن يعود إلا بعد عدة أيام . كانت أمي تلاحظ ذلك فتكاد تنفجر غيظاً ثم تغرق في الصمت .. هل لأنها لا تحب الكذب ؟ ربما .

 -3-

 هل كانت خالتي شريفة كما كانت تدعي ؟ لا أعرف سوى أن تصرفاتها لم تعد تعجب أمي ، وهي أختها الكبرى ، وامرأة مثلها ، والمرأة أدرى بالمرأة ، وفى القرية الآن حديث تلوكه الألسن في تلذذ وشهية إنها حكاية أبي وخالتي حسنية . فليكن ما يكون ، وليختلقوا الحكايات لن أصدق أحداً ، حتى أمي لن أصدقها إذا تحدثت بمثل هذا الحديث ، وهي فى الواقع لم تتحدث.

 ثلاثة شهور مرت على طلاق خالتى حسنية، ويسير في القرية الآن حديث أشد إثارة من سابقه : لقد شاهدوا أبي وخالتي وهما يخرجان معا من عند طبيب أمراض النساء فى البندر ( قريتنا تعرف أطباء النساء جيدا ) وأن ذلك حتما لعلة ، المهم أنهم أجمعوا على أنها حامل ، وأجهضت الحمل . ومن كان يشك فى ذلك يؤكد أنها حامل من الأفندي الذي كان السبب فى طلاقها ، أما العجوز فالجميع كان يعلم أنه لا ينجب .

مساء ذلك اليوم عاد أبي مهموماً  كئيباً ، ولم تكن خالتي حسنية أقل كآبة منه . لكن يبدو أن كآبة خالتي حسنية كانت تذوب فى جسدها اللدن ووجهها الشمعي الرقيق ، أكاد أجزم أن هذه الكآبة أضفت على خالتي لمسة جمال على عكس أمي المسكينة التى أصبحت تحدث نفسها هذه الأيام .

الوقت كالماء الراكد في مصرف قريتنا جامد نتن ، ولسان القرية لم يهدأ بعد ، أبي كئيب وأمي نحيلة – كانت فوق ذلك مريضة – وخالتي تفقد تدريجياً جمالها فتتحول إلى الشحوب، وللكآبة لمسة جمال زائفة – كنت أسأل نفسي : ما علاقة الكآبة بالنحول والشحوب ؟ ولم يتراكم كل ذلك فوق أمي ؟ طبيب يخرج وطبيب يدخل .. آه يا أمى المسكينة ! لقد عرفت سر هذه العلاقة إنه الموت !

كنت أشعر أن خالتي هي السبب في موت أمي رغم أن الطبيب أكد أن موتها كان بسبب مرض عضوي خطير، إنه شعور لا أكثر مثل شعوري الآن نحو خالتى بالضيق .

الحزن في القلب ، ولا بد للماء الراكد من حجر ثقيل كي يتحرك – وخالتي حسنية ترتدي الأسود ، ماتت أمي و خالتي حسنية ما زالت جميلة .. جاء أصدقاء أبي القريبون وعرضوا عليه أن يتزوج من خالتي حسنية ، ولم أجد أنا فى ذلك غضاضة.. لأن الحزن مثل الوقت كالريح .

لكن أبي خيب آمالهم ، ورفض الزواج من خالتي حسنية .. ولما أبديت له موافقتي ، وأن من حقه أن يتزوج ، وخالتي لم تزل جميلة ، وخالتي .. وخالتي ..ابتسم ، كمن فقد شرفه ، ابتسامة صفراء ثم قال :

– أنت .. يجب أن تعرف أن خالتك ..

ولم أدعه يكمل ، كان يتألم ، ألمحت إلى حكاية الأفندى قريب زوجها ،وحكاية طبيب النساء ، فأومأ لي بالموافقة فى أسي ، ودمعة تكاد تطفر من عينيه ، ولكنها لم تسقط .. وكنت أعرف أنه سيموت مثل أمي ، وبعد أيام قليلة مات أبي.

_________
*كاتب ومترجم مصري

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *