معـرض

خاص- ثقافات

*محمود شقير

يأتون في الموعد المحدّد قبل المساء.

ترحّب بهم المرأة المسؤولة عن تنظيم المعرض في قلب البناء، يبتسم لهم الرسّام الذي مال إلى الرسم بعد أن شاب شعر رأسه، يبتسم لهم وهو محاط بزوجته وأولاده وبناته. الزوجة ترتدي فستاناً فضفاضاً ينسدل إلى ما تحت ركبتيها بقليل، تطلي وجهها بأصباغ فاقعة لكي تخفي بعض التجاعيد الصغيرة التي بدأت، منذ وقت غير بعيد، تهدّد نضارتها. والزوجة مضطرة للظهور بمظهر امرأة فاتنة، لأنها تغار على زوجها من المعجبات، فقد لاحظت في المعرض السابق لزوجها، قبل ستة أشهر بالتحديد، أن ثمة فتيات يعشقن الرسم وغيره، يحطن بزوجها على نحو مريب، (مريب من وجهة نظرها، والله أعلم بحقيقة الحال) أبدت ندماً شديداً لأنها تغيّبت عن معرضين سابقين لزوجها، ولا تزال حتى الآن تفكر في ما جرى أثناءهما من اختراق لحدود ولايتها الإقليمية على زوجها. آه، زوجها الذي لاحظت دون أدنى لبس أو إبهام، حماسته لتحلّق الفتيات من حوله، فكأنه في يوم عرسه، أو كأنه على وشك الزواج من جديد، اتخذت الزوجة لذلك كل الاحتياطات، صار من أول واجباتها الالتصاق بزوجها على نحو حميم، كلما اقتربت منه فتاة معجبة، (خالعة من وجهة نظر الزوجة، والله أعلم بحقيقة الحال).

يتابع الرسام بحبور تدفّق الرجال والنساء إلى معرضه، فيما يتحرك من حوله في هذه اللحظة بالذات، عدد من مراسلي الصحف ومحطات التلفزة، لتقديم مادة إعلامية لائقة في اليوم التالي، والزوجة لا تبدي أية غيرة من تحرّك رجال الإعلام، بالعكس، فهي تواصل الابتسام، وتعرض نفسها أمام الكاميرات، كما لو أنها تريد أن تجعل قلوب الجارات، تغلي بالحسد، لأنهن لا يظفرن بشيء مشابه لما تظفر به زوجة الرسام.

يتفرّس الزوار في اللوحات المعلقة على الجدران كأنها أطباق شهية، يودون لو يقضمونها بين أسنانهم الحادة، أو هكذا خيل للرجل الصامت طوال الوقت، الذي كان يرقبهم من ركنه البعيد في الصالة المملوءة بالأضواء، فقد بدا متشكّكاً في مدى اندفاعهم للتفرّج على اللوحات، حينما بدأت أنظارهم تزوغ لثوان معدودات، يتأملون بعضهم بعضاً من تحت إلى فوق ومن فوق إلى تحت، والرجل يتابعهم في حيرة، فلا تلبث حيرته أن تتبدّد وهو يراهم منصرفين، بعد وقت محدود، عما جاءوا من أجله هذا المساء.

يتفرّسون في الوجوه المطلية بالمساحيق أو بالابتسامات، وفي السيقان التي تتحرك فوق أديم الصالة كما لو في صالة لعرض الأزياء، يتبادلون العناوين وأرقام الهواتف وأشياء أخرى غامضة، تنتقل عبر الأيدي وتستقرّ في الحقائب أو في الجيوب، ثم يخرجون نحو الليل، يذوبون في شوارع المدينة، والرسام يبدو حانقاً بعض الشيء لأن زوجته وقفت حائلاً بينه وبين معجبات كثيرات، فلم يتمكّن من التعبير عن نفسه على النحو المطلوب، والزوجة تبدو مسرورة لأنها حظيت بعدد من الصور التي التقطها لها مصورو الصحافة والتلفاز، ولأنها نجحت في إحباط كثير من الهجمات المعادية التي استهدفت حدود ولايتها الإقليمية. والزوجة مسرورة كذلك، لأنها لاحظت رجلاً صامتاً طوال الوقت، يتأملها بين الحين والآخر، فكأنه يبدي إعجابه بفستانها الفضفاض، وبوجهها الفتان، (الفتان من وجهة نظر الزوجة، والله أعلم بحقيقة الحال). وللحقيقة، فإنها لم تظهر اهتماماً بالرجل، لكنها قررت توظيف إعجابه بها، ولو بينها وبين نفسها، للمضي قدماً في تشديد قبضتها على زوجها الرسام.

تخلو الصالة من الزوّار تقريباً، يخرج الرسام مصحوباً بزوجته وأطفاله. الزوجة تدسّ يدها تحت ذراعه، وهو يكاد ينفر متبرّماً من ضغطها على الذراع. تجلس المرأة التي أشرفت على تنظيم المعرض في مكتبها لتنال قسطاً من الراحة، تبدو راضية عن نفسها، لأنها استطاعت حشد هذه النخبة من الرجال والنساء في ساعة محددة.

يبقى الرجل الصامت وحده حتى اللحظة التي تغلق فيها أبواب المكان، يتأمل النماذج البشرية التي تحتشد على أديم اللوحات، والرسام يقنع زوجته، بعد جهد جهيد، بأن لها مكانة خاصة في نفسه، يطمئن بالها إلى حين، والرسّام يعكف منذ تلك الليلة على الرسم، تمهيداً لإقامة معرض فني جديد في مكان ما، ربما بعد أشهر ثلاثة أو أربعة من الآن.
_______

*روائي وقاص فلسطيني

من مجموعته القصصية “صورة شاكيرا”/ المؤسسة العربية للدراسات والنشر/ 2003

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *