مقاطع من رواية لم تكتب بعد(2)

خاص- ثقافات

*يوسف غيشان

قبل ما يقارب الثلاث سنوات من حادثة وليمة الأمير في المدرسة، كنت قد شاهدت خالي سامي لأول مرة، كنت أسمع أمي وخالاتي يتداولن اسمه أحيانا ، بينما لم يكن جدي لأمي يذكر اسمه أبدا في التعاليل  شبه اليومية مع أبي  في بيتنا الطيني ، وكان يتذمر بحركات عصبية من يديه وفمه كلما سمع اسمه.

يبدو أنهم كانوا يجلبون المساجين كل  عام من سجن الجفر الصحراوي إلى سجن كبير في العاصمة ، ليستطيع الأقارب زيارتهم، دون تجشم عناء الذهاب إلى اقصى الجنوب، في عمق الصحراء، حيث الجفر،وقد ارتأت والدتي في ذلك الوقت أن أرافقها لتريني لخالي .، فلم أكن قد أكملت عامي الأول حينما اعتقلوه.

ركبنا الباص إلى العاصمة، جلست امي إلى جانب  قريبتها بهية، خلف كرسي الشوفير مباشرة. كانت بهية امرأة قصيرة جدا، حتى بالنسبة إلى طفل مثلي،  تلبس لباسا فلاحيا مع ربطة على الرأس، كان يبدو عليها البؤس والفقر أكثر منا، لكن وجهها مكتنز وضحوك،ينزّ منه النور كلما ضحكت، ولأسباب لا أعلمها، ارتحت لتلك المرأة وعلمت خلال الطريق، بأنها تمت بصلة قرابة لي من ناحية الأب.

ركبت في حضن أمي ، حتى لا تدفع عني أجرة راكب ، سار الباص في الطريق الأفعواني الذي يؤدي إلى العاصمة، حيث سجن عمان المركزي.بالمناسبة كانت المرة المرة الثانية التي أغادر فيها البلدة إلى العاصمة او إلى أي مكان آخر. كنت مذهولا بروعة التجربة، ومندهشا من الأشجار التي تمشي مسرعة عن يميني وعن شمالي، كما في المرة السابقة

  • يمّه الأشجار بتركض راجعة ع مادبا.

في زيارتي إلى العاصمة، وصلت إلى مشارفها فقط، تحديدا ، إلى مستشفى الهلال،حيث رافقت أمي لزيارة شقيقتي التي تعرضت لحادث دهس.أدين بزيارتي الأولى لذلك السائق  دهس قيقتي الصغرى ، وفتت قدمها، فقد وفرت لي تلك ” الدعسة المفاجئة،  ، زيارة ميدانية ومبكرة لعمان ، يبدو أن  المدهوس ينبغي أن يدخل المستشفى ، فدخلت أختي مستشفى ” الهلال ” في أول نزلة المصدار ( هي نزلة حسب القادمين من الجنوب وطلعة بالنسبة لأهل عمان ) . كنا نركب ، أمي وأخوتي وأنا في سيارة الأجرة حيث ننساب في ذات الطريق الأفعواني الموصل  من مادبا إلى عمان وبالعكس ، حتى ” يقرطنا ” السائق على بوابة المستشفى محملين بفواكه لم نكن نراها إلا حين يمرض أحدنا ، وأذكر أننا كنا نقوم بتهديد بعضنا – اقصد أصدقاء الطفولة – بأننا لن نطعم الآخر موزاً حينما يمرض الوالد وتصلنا ( الطلاّت ) . المرض كان أمنية  لأنه الوسيلة الوحيدة لتعديل طعم الفم ، وشطفه من بقايا العدس والرشوف والمجدرة والخبيزة.

عمان .. أسواق تعج بالسابلة ، بيوت بالغة العلو ، وهذا ما لم نكن نشاهده في قريتنا الكبيرة ، مادبا .

أطباء دمثون ، ونساء يرتدين الأبيض الناصع ، ودرج نصعد به إلى الأعلى وغرفة واسعة فيها سرير وتدفئة مركزية ( للعلم تكاليف المستشفى كانت على حساب الداهس ) , للمرة الأولى أشاهد تدفئة بلا دخان يلج العيون بوقاحة ، ولا حطب ولا دموع ولا حرق أصابع، ولا ” سكن ” ولا شرر متطاير على البساط ، ولا كاز يقطر بتؤده في جوف صوبة البواري . التدفئة المركزية ، صندوق حديد ساخن نقوم بتنشيف البشاكير على نافوخه !!.

شقيقتي كانت أكثرنا سعادة في هذه النغنغة المفاجئة رغم أصابع قدمها المعجونة بالإسفلت ، فمن أين لها هذا الطعام الجيد المقدم على صحون خاصة ونظيفة ؟  ومن أين لها هذه الفواكة وقطعة اللحم اليومية ، وليس كل يوم ( أحد ) كما في البيت.

غرف .. غرف في كل مكان .. هكذا كان المستشفى ، وهكذا كانت عمان ، ولما كنا نعيش جميعاً في دار طينية واسعة ، حيث كانت الغرفة حكرا على الأرانب التي كانت تشاركنا  السكن ،إضافة إلى (كوارة) لتخرين القمح لم  تكن تبخل علينا بالفئران ( الجرذان لم تكن قد أُخترعت بعد ) .

صرخت مرة أخرى بصوت أعلى:

–      يمّه الأشجار بتركض راجعة ع مادبا.

لم تعرني أمي اي اهتمام،كانت تستمع إلى صديقتها بشغف، وهي تحدثها عن سبب التباعد الذي حصل بين زوجها وجدي والد امي. فهمت من القصة بأن عباس زوج بهية ركب مع جدي على حمار وانطلقا إلى القرى المحيطة في مادبا للأسترزاق ، حيث كان لجدي دكان لتبييض الطناجر النحاسية ، وقد اخذ عباس مساعدا له وشريكا في الغلّة.

وصل جدي وتابعه عباس إلى أول قرية في شريط الجوع المحيط بالبلدة، مثل نتوءات باهتة على حواف الصحراء. فور وصولهم أرسلهم الأهالي إلى بيت كبير يتوسطة رجل كبير بالسن ، يعاني من تورم في ركبته بشكل يعجزة عن المشي. وطلبوا منهما معالجة المريض طبعا.

أخرج جدي زجاجة (مية النار) التي يستخدمها في تببيض الطناجر ودلق القليل منه في صحن، وأعطاه لعباس الذي رش السائل الحارق على الورم، انتشرت رائحة تشبه الشواء، صرخ الرجل بصوت غريب مع جعير وزئير ثم غاب عن الوعي . ارتبك القوم قليلا ، ثم القوا القبض على عباس، وربطوه بإحكام على أقرب شجرة.

تشاور القوم فيما بينهم، ثم قالوا للطبيبين المزيفين ، بأنهما  سيحتجزان إلى أن يفيق الرجل من غيبوبته ، وإن لم يفق سوف يقتلونهما. أشعل جدي سيجارة هيشي وتربع في ظل حماره، بينما كان عباس ينشج ملتصقا بالشجرة.

بعد أن أنهى جدي سيجارته بنجاح، نهض بتؤده ورش الماء على وجه الرجل ، وبعد دقائق مرت كالدهر عطس الرجل ثم نظر إلى ركبته ، فرك حول الحرق بأصابعه، ثم نهض على قدميه وسار بشكل سليم .

اذا فقد نجح الأطباء المزيفون في تطبيب قدم الرجل . فرح القوم وهللوا ، وفكوا وثاق عباس عن الشجرة .

لم تتوقف الأشجار عن السير على جانبي الطريق ، لكني اهملتها قليلا وأنا استمع بتشوق إلى قصة جدي وعباس ، حيث ان الأهالي فرحوا ،  فاطلقوا العيارات النارية في الهواء ابتهاجا، وأولموا لهما خروفا مسمّنا، ثم منحوهما كميات من اللبن الجميد والسمن  أجرا لهما على تطبيب الرجل المسن.

خلال عودة الطبيبين المزيفين إلى البلدة، لم يصبر جدي ، وطلب من عباس أن يقتسما الغنيمة، لكن عباس رفض القسمة وقال ان الأجر من حقه بالكامل.

سأله جدي، وهو بين المصدق والمكذّب عن السبب، فقال عباس:

  • مين اللي صلبوه مثل المسيح..انا والا انته؟؟؟

غضب جدي وأنزل عباس مع الغنائم عن الحمار ، ثم ركب حماره وتركه في وسط الطريق.

ضحكت أمي، لكنها كانت حريصة أن لا يسمع  أحد في الباص ضحكاتها سوانا. امتلأت عيون أمي بالدمع واكتظ انفها بالمخاط خلال محاولتها كتم الصوت.

ارتاحت بهية لأنها اضحكت امي ، التي لم تغضب جراء ما حصل لأبيها، فشرعت بهية  في الحديث عن زيارتها للدكتور نقولا، الذي بعد أن أجرى لها بضعة فحوصات قال لها:

  • انتي لازم تتحمّي….. معاكي كسترول.

هكذا قالت المراأ، لم أفهم مدلول الكلمة، سألت أمي ، فسكتتني ، وتنبهت إلى ما ستقول المرأة.

  • وشو هوه الكسترول يا دكتور؟

  • قال لها الطبيب:

  • يعني لما بدك توكلي جاج.. لا توكلي الجلدة

  • – ول يا دكتور… بدك تحرمني من حصتي؟؟؟

قهقهت أمي ، ولم تستطع هذه المرة  أن تخفي صوت ضحكتها، وكانت أكمام ثوبها مبتلة على الآخر.

شعرت أمي ببعض الندم لأنها قمعتني، فشرحت لي بقية القصة:

  • المسكينة لما بذبحوا جاجة مرة والا مرتين بالشهر ، ما بطلعلها إلا الجلد اللي فيه الكسرول اللي بده الدكتزر يحرمها منه…فهمت يا دب؟.

واستمرت في الضحك .

تغير لون العجوز،غير المعتادة على ركوب الباص،  صار فمها يبقبق ، ثم افرغت ما في معدتها إلى الخارج، ولكن إلى رأس الشوفير مباشرة.

فوجئ السائق، واوقف الباص بسرعة، لم يفهم ما حصل في البداية ، ثم ادرك الموقف، فنظر إلى بهية  شاتما وهو ينظف نفسه بشريطة مسح الشباك

قال المرأة موجهة كلامها للسائق:

  • لا تقرف ولا ع عبالك يا بنيي …. والله كله خبز وشاي …. من اسبوع ما كلت غير خبز وشاي .

هدأ السائق ، واستعاذ واستغفر، نظف ما استطاع، ثم انطلق الباص..سكتت المرأة خجلة من نفسها.

أمي استمرت في الضحك خلسة ، وكنت ارتج في حضنها، وصارت ترفع فستانها وتمسح دموعها ومخاطها.

وصلنا إلى الكراج في العاصمة، افترقت امي عن بهية ، التي كانت ذاهبة إلى مكان آخر، وانطلقت مع امي سيرا على الأقدام، وكانت تعرف الطريق إلى سجن عمان المركزي لأنها كانت تزوره كل عام.

سرنا طويلا في شارع شبه مزدحم ، وكنت متلهيا بالنظر إلى البيوت التي تركب فوق بعضها على الجبال التي تحيط بالشاررع، حتى افرنقعت الجبال ، ودخلنا إلى السجن الكبير .

صعدنا الدرجات العملاقة التي لم اكن قد رأيت اكبر منها ، وجدنا هناك عدد من اخوة جدي واقاربه ، لم يكن جدي موجودا، كنت اعرفهم ..ابو سالم ، وابنه سالم ، وميخائيل وسليم، كانوا متجهمين .

بعد قليل ، جاء العسكربرجل طويل وملتح، هجمت امي عليه اولا وعانقته مع بكاء ، سلّم على الجميع وعانقهم ، ثم قبلني وابتسم في وجهي ووضعني في حجره وجلس يتحدث مع اقاربه.

بعد قليل،ابتعد الرجال جميعا عنا ، بقيت انا وامي وخالي ، ابو سالم نادى على خالي ليقترب من المجموعة  في وسط الغرفة ، انصاع خالي ، تحادثوا قليلا ، احتد النقاش، ثم حصلت المفاجأة التي لم اكن اتوقعها ولا افهمها.

هجم الجميع على خالي ، هجمة رجل واحد، واطاحوا به ارضا، وبين صراخي وصراخ امي انقضت الدقائق المهووسة، لم اعد اذكر من تلك المعركة سوى لون الماء الأحمر ، بعدما شطفوا دماء خالي ، المنصبّة من انفه ، وربما من اماكن اخرى،  اذكر الماء المشوب بالدم وهو يتسلل عبر الدرج الكبير الذي ارتقيناه إلى الداخل.

بعد فترة  طويلة ، فهمت الموضوع، فقد كان ابو سالم قدتحدث ابو سالم مع مسؤول امني ، حول الطريقة التي يمكن فيها اخراج خالي من السجن ، فأخبره  الرجل بأن من يستنكر جزبه ويعلن ولاءه، يخرجونه من السجن فورا،  ووعد الرجل الأمني ابو سالم ، بأنه اذا استطاع وضع بصمة خالي اليمنى على ورقة الإستنكار ،فسوف يعود معنا إلى بيته.

وهكذا اقنع ابو سالم بقية اخوته واقاربه، بالهجوم على سامي وانتزاع بصمته على الورقة. لكنهم لم يستطيعوا فتح يده، رغم هجومهم العنيف عليه ،كأن قوة الروح هي التي منعهم من تسويد اصبعه بحبر البصمات، كان اضعفهم جسدا، لكن اقواهم روحا… وعندنا ، امي وأنا،إلى مادبا  صامتين ،ولم آبه في طريق العودة إلى الأشجار المتحركة، فيما بقي خالي في السجن لثلاث او اربع سنين تلت…………..
___________
*كاتب أردني

 

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *