خاص- ثقافات
*مريم لحلو
هل من اللازم أن تعرفوا اسمه؟ هو سين بن سين مثل كل “السينات” التي يمتلئ بها هذا الكوكب. يسكن في غرفة بحي اتخذ له “السلام” اسما..مهمٌ هنا ذكر الاسم بالرغم من أنه يجب أن يقترن باسم حي آخر مجاور هو”فلاج الموساكين” لوجود أحياء أخرى بالاسم نفسه في مدينته نفسها..ناهيك على شيوع هذه التسمية في مدن بلده كلها. فلا بد أن يُسمى حي ما بحي السلام على سبيل التمني أوعلى سبيل تسمية الشيء بضده. المهم،فأغلب الأحياء التي تحمل اسما كهذا تشتعل فيها حروب صغيرة بين الباعة والمخزن،وبين المشترين والأسعار وبين هؤلاء جميعا و المصلين.( المصلون فعلا ناس ولكن جلهم عينة خاصة تتسم بصفة المرونة، مرونة الاتصال والانفصال فهم البائع والمشتري والخصم والحكم) لأن هذه “السويقات” غالبا ما تقام عند منافذ المساجد.تماما مثلما قامت الحضارات على ضفاف الأنهار.
ما علينا، “سين بن سين” أديب كما يرى نفسه،وكما يراه بعيض أصحابه.متعته الكبيرة هي الجلوس عند ذلك الشباك الضيق لتلك الغرفة العالية الوحيدة على السطح التي تشبه برج مراقبة. يراقب الوجوه، والحركات،( خاصة حركات النساء)والأصوات والعربات …الخلاصة أنه يراقب كل متحرك وساكن..أليس أديبا؟؟
يترك رأسه متدل فترة طويلة دون كلل أوملل ولداع ما يرفع عينيه إلى مستواهما العادي فيصطدم وجهه بوجهي أومنقاري لقلاقي المئذنة اللذين كانا ينظران إليه بريبة أول الأمر ثم اعتادا وجوده كأي لقلاق غريب الأطوار. أما المئذنة فكانت نظرتها له مختلفة حسب أوقات النهار. فهي صباحا تشبه أما حانية مغلوبة على أمرها وهي تجوس بعينيها الغرفة التي ملأتها الزجاجات الخضراء الفارغة…الحقيقة أنه استشعر شيئا من الحياء ففكر في إبعاد هذه الزجاجات عن نظرها حبا واحتراما.ظهرا،وقد لبستها الشمس من كل جانب يراها كفتاة نحيلة منقبة متزمتة تلبس جوارب غليظة في عز الحر..عصرا تتحول إلى جارة طفيلية لا جمال فيها ولا دهن ولالحم تحاول التطفل على حياته الخاصة وقد تثير بعض المشاكل الصغيرة لتخرجه من جحره الأبدي.مع هبوط الليل تتحول رويدا رويدا فتفقد قليلا من استقامتها المستفزة وينحل خصرها ويبرز ردفها ويستدير صدرها ويسقط الإزار عن نصف جسمها العلوي بل يكاد يسمعها تناغي الباعة و العلك يطرطق في فمها بجملتها المغوية:يا الدلعدي !!فيصبح شبه متأكد من أنها ستوافق على دعوته لها للعشاء..
يعيده صوت الباعة إلى رشده.ثم ينغمس في وحدته الممتعة العصية عن كل وصف.يحدث نفسه عن هؤلاء البشر الموجودين في الأسفل بقدر ماهم مهمين لرسم أبطال، وشخصيات بقدر ماهم مزعجين للغاية خصوصا عند انقضاء كل صلاة .ولكن،لا غنى عنهم لمؤلف كبير مثله يغمس ريشته في محبرة الواقع.
ككل الأيام فتح نافذته الصغيرة على مصراعيها.أحدث صوت اصطدامهما بالحائط رعشة في قلبي زوج اللقالق..وكادت “حميدة” تتفل في صدرها.. تدلى رأسه ليمسح بنظره الساحة كالعادة. اندهش..فرك عينيه..أعاد النظر..ولكنه في كل مرة ينقلب إليه خاسئا وهو حسير.شك في قواه العقلية.. تحرك في الغرفة قليلا.. رش بالماء البارد وجهه. أعاد النظر إلى الأسفل .. الساحة فارغة .. فارغة تماما .. كيف؟ الله أعلم ..سنين عددا وهي على حالتها من التلوث بجميع أنواعه. لم تنفع شكوى الإمام ولا شكوى وزارة الأوقاف..ولم تفلح شكاوى السكان ..المالكين والمكترين والعابرين .. “وهؤلاء المساكين أين يذهبون؟” يقول القائد ولمقدم في تواطؤ معروف الأسباب .. ولكن،الآن كيف؟؟ يقال التعليمات الصارمة للوالي الجديد الذي أراد أن يعيد لهذه المدينة وجهها المشرق المشرف .. ولذلك بني سوقا مغطى منظما بأحدث التصميمات .. وقد انتقل إليه الجميع عن طريق الترغيب رالترهيب مرغمين.
عاد لحي السلام سلامه ولكن،كل أولئك الذين كانوا يتذمرون بسبب الصخب أصبحوا يتذمرون بسبب السكون. فالرفض الأول سرعان ما تحول إلى تعود ثم إلى عادة ..هذه العادات القاتلة لكل رفض ..لكل إبداع..لكل دهشة.. سكنت الحركة بالحي وسكنت ريشة “سين”.وأغلق نافذته وولى ظهره للمئذنة و لزوج اللقلق .. وغرق في كآبة فادحة …
وفي أحد الصباحات استفاق على ضجة في الأسفل ظن أنها من أوهام خياله.. قام بتلكؤ ..ولدهشته وجد الساحة وقد عادت إلى سابق فوضاها. ابتسم بل قهقه..نظر إلى المئذنة أخذها بين ذراعيه وتراقصا مدة طويلة..عندما تعبا عاد كل إلى مكانه الأول.. رفع صوت المذياع. ثم قال بانتشاء:
– الحمد لله.. هكذا ..كان يجب أن تقوم ثورة الياسمين لتعود للساحة حياتها ..وليعود لي إلهامي …
___
*أديبة من المغرب