مقاطع من رواية لن تكتب بعد (1)

خاص- ثقافات

*يوسف غيشان

جاء الناس من كل حدب وصوب لرؤية الأمير، في الواقع ، وصلوا من الصباح الباكر، وجلسوا على بوابة المدرسة بانتظار القادم الكبير. خليط عجيب من الرجال والنساء والأطفال، الأطفال يتدافعون بشغف وشيطنة حول الجميع. يحتمي بعض الأطفال بأبائهم، بعد أن يعتدوا يدويا، وبلا مبرر غير الشغب واللعب، على أطفال أكبر منهم  وأطول.

بين الفينة والأخرى تصدح بعض النسوة بأغان فولكلورية لا تكتمل، تقطعها زغرودة صادحة من إحداهن وتشاركها الأخريات، بلا تحفظ،بينما تصفق بعضهن على الأيقاع، وهنّ يحملن جزادين مهترئة تحت الإبط الأيمن غالبا.أم خليل ضحكت حتى الثمالة على نفسها، بعد أن أدركت أنها تزمّ ذراعها الأيمن على جزدان لم تحضره معها أصلا.

انفجرت أم خليل بالضحك حتى اختلطت دموعها بمخاطها ولعابها ، انتقل الخليط إلى اكمامها، وهي تحاول أن تشرح لبقية النسوة عما حصل معها، لكنها عجزت عن التوقف عن الضحك. بعد دقائق أهملتها النسوة، لكنها استمرت بالضحك على حالها.

من بعيد، تناهى زعيق مبحوح لسيارت الشرطة ، هدوء حذر ، ترقب أقل حذرا، اهتياج، فقد أزفت لحظة وصول الأمير. اقتربت ثلة من العسكر، وشرعت في إبعاد الناس عن وسط الشارع، بالخيزرانات الرفيعة شديدة الفعالية،فانقسموا إلى فلقتين، يتزاحمون على الأرصفة الترابية، ولم يعدم الأمر من انتقالات فجائية بين الرصيفين المتقابلين. لم يتذمر الناس كثيرا، فقد كانوا مبتهجين.

فلقت سيارة عسكرية الشارع بسرعة، تتبعها سيارة الأمير، فتح الأمير باب السيارة، ونزل برشاقة،قبل أن يتيح الفرصة للعسكري لفتح الباب، كما هو مفترض حسب البروتوكول. بينما خرج من الباب المقابل، بعد أن فتحه العسكري ، رجل طويل أسمر ومتجهم، كان الناس يعرفونه، فهو صاحب الدعوة، وهو نائب في البرلمان ، انتخبوه قبل سنوات، مليونير، وكيل عدة ماركات سيارات، هومليونير ، كما أسلفت، لكن اسمه كان شحاده، فكرت في التناقض، لكني  لم أشعر أن أحدا فكر في الموضوع اللغوي غيري.

صالح ، الرجل الأرمل في حارتنا، لم يصدق ان هذا الرجل المربوع القصير هو ذاته سمو الأمير المنتظر. قهقه بحذر ، وقال لمن في جانبه بصوت خفيض:

–      فعلا زي ما قالوا…فكرت الباشا باشا…أثريت الباشا زلمه.

أستاذ التاريخ الذي يتسلم منصب أعمال التنظيم أشار لطلاب المدرسة وللناس معا أن ينشدوا ، احتفاءً بالأمير، دون أن يحدد النشيد:

قسما بالساحقات الماحقات

و…………………………..

 صرخ الأستاذ:

–      مش هاي يا حمير يا أولاد الحمير ..هاي عن الجزائر.

ثم أنشد بصوته الجهوري المفجع ، أغنية حماسية، لم يشاركه فيها احد، لأن الأمير ومن معه ولجوا بوابة المدرسة الخارجية. كان الناس يترقبون، ولا يعرفون تماما إذا كانوا سيسمحون لهم بالدخول، لمشاركة الأمير طعام الغداء.

صراع بين الشوارع والأرصفة، الشرطة تسمح، فقط ، للمدعوين من وجوه العشائر والمفاتيح الانتخابية، وبعض رجال الأمن بلباس مدني ، الذين كان أغلبهم بملامح اجنبية شقراء، موفوروا الصحة.

أبو الوليد، عسكري  أحيل على التقاعد بعد تعرضة لحادث انقلاب سيارة عسكرية ، قبل سنوات، اقترب، وهو يعرج، اثر الحادث، بعد دخول الأمير يحمل بندقية عسكرية قديمة، فارعة الطول،رفع بندقيته إلى السماء وأطلق النار ..ربما للمرة الأولى من سنوات ، فقد كان ممرضا، لا علاقة مباشرة له بالأعمال العسكرية. لم يقدّر قوة البندقية ، فوقع على الأرض، ارتعب الناس، خشية أن تنطلق رصاصة أخرى تصيبهم، فالرصاصة الأولى، أحدثت دويّا هائلا،وكسرت زجاج الصف السادس ، في الطابق الثاني من المدرسة.

ركض بعض رجال الشرطة وآخرون بلباس مدني وحاصروا أبو الوليد، حاول أحدهم أن ينتزع البندقية منه، لكنه صرح فيهم بوحشية:

–      أنا عسكري ……بطخ لسمو الأمير ..مش عليه.

لم يأبهوا لصراخه، واستمروا في محاولة انتزاع البندقية ، لم يستطيعوا…اقترب ضابط يعرف ابو الوليد ، كما يبدو، وأمرهم بأن يتركوه ، ثم مد يده وأسنده عن الأرض. وقف أبو الوليد بصمت، بينما الضابط ينتزع الرصاصات المتبقية في الباغة ، ويعيدها إليه مفرغة.

–      برجعلك الفشكات..بعد ما يروح سمو الأمير.

انتهت المسألة، أغلقوا باب المدرسة على المحظوظين الذين دخلوا مع الأمير، وعاد الناس إلى فوضاهم.

عاد سكان الأرصفة، واحتلوا الشارع  مرة أخرى، بعضهم جلس القرفصاء متكئا على جدار المدرسة الخارجي.

في الداخل ، ارتباك مكتوم حصل ، لم يشعر به الأمير ، فقد تذوق بعض المرافقين  للأمير الطعام قبل  أن يصل إلى ساحة المناسف، فامتعضوا من الطعم والنكهة. فهموا الأمر بسرعة ، بفعل خبرتهم في هذا المجال . اكتشفوا أن الرز، كان قد تم إحضاره من دكاكين الجملة ، وكانت شوالات الرز قريبة من أرتال صابون الفونيك حاد النكهة، مما أدى إلى انتقال الطعم إلى المنسف. ولما تذوقوا اللحم ، اكتشفوا  ان قطيع الأغنام، الذي تم ذبحه للعزومة، كان قد أكل قبل الذبح بقليل من نبات يسمى (سليح) وهو نبات حاد الطعم، منتشر بكثرة في المنطقة، انتقل طعمه الحاد إلى اللحم مباشرة.

يا للهول ، ماذا يفعلون. أخبروا النائب. فأمر فورا بإحضار كمية من اللحم من ملحمة جيدالله القريبة، وطهوها باللبن بسرعة، وقاموا بفلفلة كمية من الرز، حتى يتم وضع اللحم والرز الجديدين على منسف الأمير . كما امر النائب باحضار كمية من صابون الفونيك، حتى يغسل الأمير والضيوف أيديهم، قبل الأكل، لعلهم يعتقدون بأن بقايا الصابون، هي السبب الأوحد في تغير النكهة.

استمر النائب في تأخير الضيف الكبير في الخيمة المنصوبة في ساحة المدرسة، بينما الأمير يستعجله، إلى ان تم تجهيز الموضوع. رفض الأمير ان يغسل يديه، وطالبهم بالولوج فورا إلى حيث المناسف، في الطابق الثاني للمدرسة، بعد ازالة الحاجز الخشبي بين الصفين.

 أكل الأمير من المنسف المستجد، ثم انتقل إلى المنسف القريب ، ثم الذي يليه لمجاملة المعزب والضيوف ، ولم يشعر بأي فرق ، فقد كان عاشقا للطعام، وللمنسف تحديدا.

تفرق الناس إلى فلقتين، طوعا،حينما شاهدوا رجال الأمن بخيزراناتهم

يقتربون منهم مرة أخرى، احد المتجمهرين ، فهم الموضوع ، وقال بصوت عال موجها كلامه للجمهور:

–      اجت السخنة

سال أحدهم:

–      خشنة والا ناعمة

أجاب الرجل :

–      النوعين (بالعامية طبعا)

اخترقت الحشود سيارة تحميل بيضاء مكتظة بـ (سدور) الكنافة يرافقها راجلا، أبو بكر ، صاحب محل الكنافة الوحيد في البلدة.

دخلت السيارة، وغلّقت الأبواب مرة أخرى.

عادت الأرصفة إلى الشوارع.

فتحت الأبواب، خرجت ثلة من الرجال، الذين يبدو عليهم الإنهماك بحدث جلل. ثم خرج الأمير أكثر تربيعا مما دخل. بجانبه ، لكن متخلفا عنه بخطوة،النائب العملاق ، وخلفهما بعض الشيوخ المدعويين، وبعض مدراء الدوائر الذين لم ألحظ دخولهم، إذ أنهم كانوا- على ما يبدو- في الخيمة المنصوبة في ساحة المدرسة، قبل وصولنا .

دون شرطة ولا خيزرانات، انشق الناس إلى فلقتين ، وفتحو طريقا لسيارة الأمير السوداء ، حيا الناس بإبتسامة رضا ، وغادر المكان..وغادر خلفه جميع من كانوا في الداخل من الضيوف.

بقيت البوابات مفتوحة في دعوة ،غير منطوقة، للناس لأن يدخلوا لتناول طعام الغداء، طارة ثانية. ولج الناس بفوضى دون اعتبار لكبير أو مسن ، الأطفال أولا،تتبعهم فيالق غير متجانسة  من الكائنات.

تدافع الناس ، صعدوا الدرج بتزاحم شديد،  ثم وزعوا أنفسهم بين المناسف وسدور الكنافة، شاهدوا الكثير من الصحون النظيفة والملاعق  والشوك، لم يأبه أحد بها، وشرعوا يأكلون بأيديهم، على عادتهم.

بعض النسوة ، كانت أمي إحداهن، ذهبن إلى بيوتهن ، وأحضرن طناجر وأوان متنوعة، ملأنها بالرز واللحم ، وصببن اللبن عليها، عدا بعض الشاطرات اللواتي احضرت جلنات وملأنها باللبن،لم تكن أمي إحداهن، وخرجن مزهوات بشطارتهن.

أبو فيصل، وهو خمسيني  أشقر متكرش بعينين تتحركان بسرعة فائقة، جلب طنجرة عملاقة، ودخل مبتهجا، صاعدا إلى الطابق الثاني، حيث المناسف. وشرع يملأ زوادته المعدنية ، دون ان يشعر البقية، بالملاعق والسكاكين الفضية. ونثر فوقها القليل من الرز ، توّجها بعدة قطع من اللحم، اختارها على عجل، وبدون روية، ثم صب فوقها القليل من الجميد السائل، ثم حملها، وبدا مرحلة النزول، ينوء بحمله الثقيل.

استراح قليلا، نفض العرق المنساب على جبينه وفوديه وعروق يديه المنتفخة.الدرج غير منظم خطوة ، خطوتان، ثلاثا.، انهى الشاحط الأول.”لقد نجوت”، وبدأ رحلة نزول الشاحط الثاني..خطوة، خطوتان، ثلاثا، كاد أن يصر إلى الساحة،لكنه تعثّر فجأة، فسقطت حمولته على الأرض بدوي هائل، بينما كانت الملاعق والأدوات  المعدنية ترقص نازلة الدرج لوحدها، تصدر أصواتا سمفونية فوضوية، نافضة عن أبدانها ما علق بها من رز ولبن.

صمت مطبق لعدة ثوان، ثم انفجر الناس بالضحك، الأطفال أولا ، ثم تبعهم الجميع، حاول شاب من أقارب ابو فيصل أن يمسك بيده ليساعده على النهوض عن الأرض، لكنه نفص اليد الممدود اليه، ونهض بغضب، وعيناه ساكنتان، وخرج.

قهقه البعض قليلا، ثم تناسى الناس الموضوع وعادوا إلى ممارسة الازدراد.

خرج أبو فيصل إلى الشارع شاتما، مر من قرب شابين فارعي الطول، لا يعرفهما، لم يأبه بهما واستمر في الشتم،تجاهله الشابان. كان احدهما خالي سامي ، والآخر ابن عمه ناجي ،لم يشتركا بالاحتفال ، ولا بمعركة المناسف، كانا قادمين من السوق……………………………………….

قد يتبع
________________
*كاتب أردني

ghishan@gmail.com

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *