*حنان جاد
«إنه يوم ممطر، ظهيرة رمادية من أواخر الخريف، صوت الراديو خفيض وأنا أقرأ في السرير. توقف الوقت. غطاني شعور قوي بوجودي.لا أتذكر عنوان الكتاب ولا في أي عام حدث هذا، ولكن اللحظات مع الكتب من أجمل ذكرياتي».
«في عمر العاشرة كنت بالفعل مغرما بالكتب…»
«لم يغادرني أبدا هذا الاحتياج للقراءة…»
«يمكنني أن أحيا وأموت في مكتبة قيمة…»
«يبدو عجيبا وجود شخص لا يريد أن يعرف ما الذي في داخل كل كتاب في هذا العالم…»
هذه العبارات من مذكرات الشاعر الأمريكي صربي الأصل تشارلز سيميك، وهذه الأوقات التي يصفها كانت في بلجراد إبان الحرب العالمية الثانية، هذا الاحتفال بالقراءة كان تحت أصوات القصف والهروب إلى الملاجئ، الركض بين الشظايا، وموت الجيران في البناية المقابلة، وكان مصاحبا لكره عميق للمدرسة،«لقد رسبت في جميع المواد الدراسية ما عدا الرسم والموسيقى».
وكان متزامنا مع الجوع الذي شهدته المدينة المحاصرة، والذي دفع أبناءها لمقايضة ممتلكاتهم بالطعام.«تحدث الأطفال في شارعنا عن الطعام معظم الوقت. أحيانا، على سبيل المثال، يصف أحدهم بتفاصيل دقيقة قطعة سجق أكلها مرة. نستمع له، نقاطعه من وقت لآخر لنستوضح الفروق الدقيقة في المذاق».
لا محفزات للقراءة إذاً، ولا طقوس؟ لا نظام تعليمي ذكي يساعد ولا أي نظام من أي نوع، فهذا الطفل لكي يتمكن من الحياة سوف يسرق ويكذب ويتاجر في مسحوق البارود الذي يستخرجه من الطلقات التي كان يجمعها مع الأطفال في الشارع، ثم يقايضه مع الأولاد الأكبر سنا بالكتب الهزلية ومعلبات اللحم الأمريكية. هذا القارئ النهم الصغير كان يعيش وسط أطفال الحرب المتنمرين وفي بعض أوقات حياته كان مصابا بالقمل».
هل يولد هذا النوع من القراء بجين وراثي لحب القراءة مختزن في حمضه النووي؟، كل ما يحتاج إليه هؤلاء، كتاب جيد يصادفه المرء في أي عمر ليكشف مرة واحدة وإلى الأبد عن هذا الهوس الجميل.
عشاق القراءة الحقيقيون، وهم أقلية، غالبا ليس لديهم طقوس للقراءة، بالتأكيد لا يحتاجون إلى أي عامل محفز، ولا يشتكون من أي ظرف معطل، يقرأون وقوفا في المترو، وسط زحام في غرفة انتظار أبدي، بين الهمهمات أو على وقع رجرجة القطار أو الباص، ولا يعوزهم المزاج، فالقراءة تفصلهم عن الواقع، وتعيد تشكيل العالم لهم، وتصنع المزاج، في الواقع يصبح القارئ نوعاً ما سيدا على الزمان والمكان. هذا الجين يبدو عشوائيا لدرجة مدهشة، فإذا كان هناك منطق في أن يكون الروائي ممدوح عزام واحدا من عشاق القراءة النهمين، باعتبار الكتابة والقراءة قرينين فلن نعرف أبدا لماذا كان أبوه الذي يعمل دركيا في شرطة السويداء مصابا بنفس الهوس بالقراءة، وإذا كان الأب قد أظهر تعلقه بالكتب وحرصه على القراءة وقدم نفسه كنموذج لأبنائه فلماذا لم يتأثر بذلك إلا ولد واحد؟، ألبيرتو مانغويل الذي يوصف أحيانا بالرجل المكتبة وأحيانا يوصف بالناطق الرسمي باسم القراء كان أبوه دبلوماسيا وكان يمتلك مكتبة هائلة تولت شراء الكتب لها سكرتيرته التي كانت تشتري الكتب بالمتر على حد تعبير مانغويل، ثم تدفع بها إلى أحدهم لتجليدها بشكل يتلاءم مع ارتفاع الرفوف لدرجة أن بعض الكتب كانت تفقد عناوينها الداخلية وبعض الأسطر الأولى من صفحاتها بفعل القص. ولم يكن أحد من سكان البيت يدخل المكتبة أو يقرأ إلا مانغويل الطفل وحده.
سنجد عشاق القراءة أو المصابين بها في أقل الأماكن وبين أقل الفئات توقعا، ففي الفيلم السينمائي (the reader) (القارئ) نتعرف إلى سيرة حارسة في معسكرات الاعتقال النازية حكم عليها بالسجن المؤبد لارتكابها جرائم حرب، كانت هذه الحارسة مصابة بهوس القراءة. ولأنها أمية، فقد احتفظت إلى جوارها دائما بمن تقرأ لها من بين المعتقلات. تقول فرجينيا وولف في أحد مؤلفاتها»إن الرغبة في القراءة، مثل جميع الأشواق الأخرى التي تحير أرواحنا التعيسة.»
في كتابه (تاريخ القراءة) يقدم ألبيرتو مانغويل أروع وصف للاكتشاف الأول لإمكانية القراءة»كنت وحيدا مع العلامات. وفي حوار صامت مملوء بالاحترام تعرف بعضنا إلى بعض. وما أن تمكنت من ربط العلامات السوداء النحيلة بعضها مع بعض وتحويلها إلى حقائق حية، حتى أصبحت إنسانا جبارا. كنت أستطيع أن أقرأ… كان الأمر بمثابة اكتشاف مفاجئ لحاسة جديدة.»
بعض عشاق القراءة يتحولون إلى مدمنين للقراءة، فالقراءة في النهاية تتيح طريقا آمنا نسبيا للهرب من الحياة. وإدمان القراءة ككل أنواع الإدمان قد يخل بتوازن حياة الإنسان، وقد يؤثر بشكل سلبي على المدمن ومن حوله، وقد يفصله، في مرحلة ما، نهائيا عن الواقع، وقد يصيبه بأضرار صحية، أو يؤدي إلى إهمال خطر، ومشكلة إدمان القراءة أنه إدمان من نوع وجيه، فحتى الأم التي تعارك ابنتها على انشغالها بالقراءة واهمالها للعمل المنزلي ستجد متسعا لتتباهى بالابنة القارئة أمام الأقارب والضيوف. وعلاج إدمان القراءة كعلاج كل أنواع الإدمان الأخرى يبدأ بإدراك المشكلة والاعتراف بها، ثم الالتزام الصارم بعملية تنظيم متوازنة للوقت.
كارهو القراءة أيضا أقلية، لا يمكنها الصمود أمام الأحرف، يسألونك باستغراب ممزوج بالإشفاق عندما يشاهدون بين يديك كتابا: هل ستقرأ كل هذا؟! حتى عندما يكونون أمام مصيرهم، امتحان مهم مثلا، فإنهم يتحايلون على القراءة بالملخصات، يجابهونها بالحفظ البائس، مع ذلك حتى هؤلاء ليس بوسعهم إلا أن يكونوا قراء من نوع ما.»فالقراءة مثل التنفس، وظيفة حياتية أساسية»يقول ألبيرتو مانغويل، بمعنى أنه حتى في المجتمعات التي لم تطور كتابة مارس الإنسان الأمي أو حتى البدائي القراءة، قرأ حركة النجوم في السماء، وطبيعة الأرض، وآثار الحيوانات في الغابة، وتقاسيم الوجه. قرأ الصيادون التيارات البحرية وقرأ المزارعون مزاج السماء، كلنا نقرأ أنفسنا ونقرأ العالم من حولنا.
كل عام في مناسبات القراءة تعود الإحصاءات إلى الواجهة، كم يقرأ العرب وكم يقرأ الغرب. وتبدأ المندبة، وجلد الذات وجلد الأمة.هناك هاجس لتحفيز الناس على القراءة فعشرات المواقع الالكترونية كرست نفسها لدعم التوجه نحو القراءة بادئة رحلتها المقدسة بتقريع أمة اقرأ التي لم تعد تقرأ، أو مستمدة إلهامها للناس بأشياء بعيدة عن القراءة مثل شعار» قارئ اليوم قائد الغد. «. وهناك محاولات أكثر نجاحا. الشاعر سيد محمود حرر صفحة تخصصت في عرض الكتب في الأهرام، يقول إن متابعيها وصل عددهم إلى تسعين ألفا، وهو رقم كبير، لا يقارن بالطبع مع متابعي صفحة الكتب على اللوموند الذين بلغوا المليونين لكن بالنظر لوضع القراءة العربي ووضع الصفحات الثقافية في الصحف يعتبر الرقم عظيما. يفسر سيد محمود أسباب نجاح الصفحة التي يعتقد أنها ربما حفزت الكثيرين فعلا على القراءة: «التنوع، قدمنا تشكيلة كتب في الأدب والطبخ والرياضة، تمتعنا بذوق جيد في اختيار الكتب ذلك أن كل من كان يكتب عن كتاب كان وثيق الصلة بموضوعه».
الخبير التربوي دانيال ولينغام كتب مقالاً عن تربية عادة القراءة عند الأطفال، ذكر أنه أولا يجب أن تتكون لدى الأطفال توجهات إيجابية تجاه القراءة، إنها ضرورية جداً ولكنها غير كافية، إذ قد يكون لدى الواحد منا توجهات إيجابية تجاه ممارسة الرياضة، وإيمان حقيقي بأثرها الجيد عليه ومع ذلك تمضي سنوات من دون أن يخصص أي وقت لممارسة الرياضة. المسألة تحتاج أيضا حسب ولينغام إلى الصورة الذاتية. حيث يرى الطفل نفسه كشخص محب للقراءة، وهذه الصورة يساهم في تأسيسها العائلة والمدرسة والمجتمع، وإن تأسيس هذه الصورة ليس عملا معقدا، كما أنه ليس مثل أنظمة الحمية التي تتبع لفترة من الزمن، إنه نمط بسيط من الممارسات التي تعبر عنا، مثل البحث في القاموس عن كلمة، أو البحث عن معلومات عبر الإنترنت عن أمر ما أثناء الحديث عنه، أو زيارة متحف في عطلة نهاية الأسبوع هنا يعود مفهوم القراءة للاتساع مرة أخرى مغادراً الورق ليعبر عن المعرفة.
_______
*الخليج الثقافي