الجسر، المرآة، الأفق

*أدونيس

I ـ إشراقٌ في جسد المادّة

(تحية إلى مروان قصاب باشي)

مات مروان: مات الوجه الأكثر إشراقاً في سماء دمشق.

فضاءٌ غير أنّه بشرةٌ ثانية للأرض في ضوءٍ هو نفسه

لونٌ، في لونٍ يكاد أن يكون شكلاً، أو يكاد أن يكون

اليدَ الخفيّةَ التي ترسم الشّكل.

هكذا، كان يبدو لي مروان كمن يعمل على إرجاع الوجود

إلى طينه التكوينيّ الأوّل، والحياة إلى نبضها الجنينيّ.

أو كمن يريد أن يخضّ الألوان ويرجّها، محوِّلاً إيّاها

إلى كائنات لا ترى منها إلا ظلالها.

في هذا وفي ما وراءه،

أبدو لنفسي، أنا المُشاهد، أمام لوحاته، أنّني أتمرأى

فيها، مقلِّباً نظري في نهائيّةٍ لا تتوقّف عن الصّيرورة

وعن التقلُّب في صور من اللانهائيّة،

في وجوه غائمة كأنّها أضواءٌ تحفُّ بها ظلمات

العناصر، وتعجز عن أن تحجبها.

في ينابيع تخطُّ مجاريها كمثل أثلامٍ على صفحة التّراب.

في ضبابٍ يتمدّد غلائل شفافةً على قامة الأرض.

كأنّني أمام طاقةٍ لا تتوقّف عن توليد عالم يتفكّك

ويتكوّن في اللحظة نفسها:

يتفكّك بفعل الحقيقة الوجوديّة،

ويتكوّن بفعل المجاز الفنّيّ.

هكذا،

بين نورٍ يتغلغلُ في الظّلمةِ اجتياحاً، حتى ليكاد أن

يطمسها مُهَيْمِناً عليها وعلى ما يحيط بها.

وظلمةٍ تسبح في النّور حتى لتكاد أن تفيض متدفِّقةً

من اللوحة، غامرةً كلَّ ما حولها.

تتحرّكُ الأشكالُ ثابتةً، وتثبت متحرِّكةً في اندفاعٍ

كأنّه إشراقٌ في جسد المادّة.

وكأنّ اللوحة ليست مقيمةً في اللوحة،

وإنّما هي طاقةُ إشعاعٍ تتموّج في فضاء النّظر،

كما لو أنّ المرئيّ هو، تحديداً ما لا نراه.

II ـ اسطنبول

في زيارة أخيرة لإزمير واسطنبول (20 – 30 أكتوبر 2016)، اتّضح لي أكثر من أيّ وقت مضى، أنّ تركيا تفقد معناها، إذا لم ننظر إليها، بوصفها جزءاً عضويّاً من أوروبا.

اسطنبول خصوصاً، أميرة الذاكرة.

تذكّرك هي نفسها، بحضورها الجغرافيّ دون حاجةٍ إلى الورق، وإلى التاريخ الذي يتشرّد على الورق، أنّها بيزنطيا اليونان، قسطنطينة الإمبراطوريّة الرومانيّة المشرقيّة، وأنّها هي نفسها سلطانةٌ أنثى يرفض العرش، هنالك، أن يجلس عليه غيرها. وهو عرشٌ يليق بها كرسيُّه الذي وسع ذات يوم الشرق والغرب.

عرشٌ يمكن القول عنه إنّ المخيّلة ضيّقةٌ عليه.

ولا يغيّر من هذا الأمر شيئاً أن ترى في مُتحَف «توبكابي» ثلاثمئة غرفة للحريم، وأن ترى «عصا موسى» محفوظةً كما رأتها المُخَيّلة، وإلى جانبها عمامة «النّبيّ يوسف»، كما رسمتها المُخَيّلة أيضاً. وأن ترى إلى هذا كلّه، غيرَ بعيد عن

«توبكابي» الكنيسة – الجامع تلك المعجزة الهندسيّة في تاريخ المسيحيّة بين السنة 537 والسنة 1453، وأن ترى كيف انقلبَت إلى معجزة هندسيّة في تاريخ الإسلام، وفي أفق آخر.

هكذا تطمئنّ إلى ما قالَته الصين عن اسطنبول قبل ولادة تركيّا – الدّولة، واصفةً إيّاها بأنها «مدينة المدن»، وإلى ما قالَتْه أوروبّا:

«إنّها بيزنطية»! وما تقوله الحداثة: «إنّها القديم الذي يخترق العصر، والحديث الذي يتآخى مع القديم».

*

لكن، أنتَ يا حبر اللغة العربيّة، ماذا تقول؟

III ـ الجسر

بين مرمرة والبحر الأسود جسرٌ يتعانق فيه وبه آسيا وأوروبا. قارتان، كلٌّ منهما مرآةٌ للأخرى. قارّتان من حريرٍ وحديد، من قلَقٍ وهجرة. ولهما سماءٌ واحدة، بهوائها وشمسها وفضاءاتها، لكن لا يوَحِّد بينهما الفِكرُ أو الدّين أو الهواء، بقدر ما توحّد بينهما تلك المادّة التي خُلِق «منها كلُّ شيءٍ حيّ»: الماء.

ولماذا إذاً تكرّر السياسةُ في هاتين القارّتين قولها:

«إن شئت أن يسود الصّدق، فما عليك إلّا أن تمارس الكذب»؟

*

IV ـ ضلالٌ أم سوءُ تفاهُم؟

«نعم أميركا ضخمة، لكنّ ذلك ضلالٌ ضخم»: هذا ما قاله فرويد في أواخر حياته، أمام إرنيست جونيس (Ernest Jones).

وكم يبدو هذا القول صادقاً، خصوصاً في المرحلة الراهنة من تاريخ العالم.

يعلّق الفيلسوف الفرنسيّ – اللبنانيّ بول عوده Paul Audi على هذه الكلمة، في صدد كلامه على أوروبا في كتابه «أوروبا ووهمها» (منــشورات ليوشـــير، باريـــس 2003) قائلاً:

«أوروبا هي أيضاً ضخمة»، غير أنها خلافاً لما توصف به أميركا: «سوء تفاهم ضخم»، أو «سوء فهم ضخم».

وينهض «سوء الفهم أو التفاهُم» على حقيقة أنّ أوروبا «لم تعرف يوماً أن تكون «تجسيداً حيّاً لخيالها»، كما يقول رومان غاري في روايته «أوروبا».

ويقول بول عودة عن رومان غاري أنّه «ممثِّلٌ بارزٌ وفريدٌ للثقافة الأوروبيّة، بل لعلّه واحدٌ من رموزها الفائقة، خصوصاً أنّه، كما يحدّد نفسه «روسيٌّ – آسيويّ، يهوديّ – كاثوليكيّ، فرنسيّ يكتب روايات بالفرنسيّة والإنكليزية، ويتكلّم اللغتين الروسيّة والبولونيّة» (رواية: «سيكون الليلُ هادئاً» فوليو – غاليمار، ص 203).

يتابع بول عودة، قائلاً:

«أن تكون أوروبا قد عجزت عن تحقيق ما كان ممكناً أن يخلقها، فهذه هي المفارقة التي تعيشها أوروبا «الكيان الحقيقيّ – الكاذب»، الحاضرة – الغائبة، الواقعية – الوهميّة. ويتساءل بلسان أرسطو: هل أوروبا استيهام (فانتاسما)؟

لكن، ما تكون أوروبا في رأي رومان غاري؟

والجواب هو أنّها «وعيٌ» لكنّه «شقيّ»، وهي فضاء فكريّ – روحيّ – خياليّ. أو هي بتعبير غاري ذاته «مسرحٌ للفكر والرّوح». وفي هذا كلّه يؤكّد غاري، كما يقول عودة، أنّ أوروبا لا تُحَدَّد بكونها «بقعة جغرافيّة أو صلة وصْلٍ بين الشّعوب.»

V ـ الكذبُ الذي هو، وحده، الصّدق

أدّت التّقنيةُ الحديثة، بخاصّةٍ في صورها وأشكالها الاستهلاكيّة، إلى نشوء عُصابٍ جديدٍ سياسيٍّ عند الإنسان: عصابُ العبوديّة لمَن هو الأعلى، سلطةً واقتصاداً، وثقافةً. لهذا العصاب عمليّاً، خصوصاً في شكله السياسيّ، صورتان: الاستتباع في الدّاخل، والتّبعيّة للخارج.

وهو عُصابٌ يولِّد عند صاحبه الشّعور بأنّه يزداد قدرةً على استتْباع الآخر الدّاخليّ، بقدر ما تزداد تبعيّته للآخر الخارجيّ. هكذا يبدو الإنسان «الحديث» كأنّه، في آنٍ، عبدٌ وطاغية. أو كأنّه عبدٌ طاغية.

وتُسهِم وسائل الإعلام في تثبيت هذه الصورة عن وضع الإنسان الحديث، فهي قلّما تُعنى إلّا بأولئك الذين يعيشون تحت راية «الأعلى» – أو قريباً إليها. وإذا كانت، أحياناً، تعنى بمن هو «الأدنى»، فلغايةٍ واحدة: إثبات هذا النّوع من «العلوّ».

هذا وضعٌ «ثقافيّ» لا يتعارض مع الثقافة الموروثة، بخاصّةٍ في أشكالها الوحدانيّة التّقليديّة. على العكس يبدو أنّه متصالحٌ معها على نحوٍ عميق وكامل. وهذا ما تؤكّده التجربة الحيّة في العالم كلّه.
_______
*الحياة

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *