بُـرج النقطة

*صالح العامري

1-
تفتح النقطة بُقْجَتها، لا كما أراد الحظ الذي سطره زيوس لباندورا كي تتفشى الشرور ويوصَد الأمل، بل كما يريد الدرويش أن يغامر، والبهلوان أن يجتاز، والمجنون أن تتوتّر أقواسه.
2-
النقطة هي الدرويش الذي تصغي صُرّته التي وراء ظهره لموسيقى الطرقات، هي البهلوان الذي يجازف بالعبور على صراط المسرح، هي المجنون الذي يتموضع في زاوية أثيرة له، كي يهز العقل الخراب.
3-
كنتُ أقول، كما لو كنتُ أستاذاً في الآداب والأديان والفلسفات المقارنة، أيهما أدعى كي أهتم وأكترث: حبيبتي النائمة على السرير، أم النقطة التي تنتظرني أمام الكوخ؟، طفلتي الماكرة التي تبتسم لي في الصباح الباكر، أم النقطة المؤجلة التي تتفرد وتستفرد بي؟، ملكة النحل العاملة في صدغي، أم غراب النقطة الماثل على شُبّاك الصفحة البيضاء؟.
أكاد أرى الأشياء، وأفرق بينها، لكنها، بفعل النقاط المدرارة، أكون في آن واحد حبيبة ونقطة وطفلة ونحلة وغراباً ونافذة وورقة بيضاء معا.
4-
في الأعالي، التي هي لحن الرغام والوحل السامقين، كان ثمة نقطة هازئة، نقطة جهنمية روحها جمرة وجسمها طيف، نقطة تسخر من البدء والنهاية، من الأول والتالي، من الموظف والكرسيّ، من العالق والمجتاز، من الطالب والأستاذ، من الحر والقر، من الخالد والفاني، من السينمائي المعلق على شجرة الصورة ومن الرسّام المصلوب على متن اللوحة.
5-
لا أظنه عام النمر، ولا عام القرد، لا عام اليمامة، ولا عام الصقر، لا عام الإوز السباح أو الضفادع الهازلة، لكنّ كل ما أتذكره الآن، أنني صحوتُ في بوشر، في التاسع والعشرين من أكتوبر بعد منتصف ليل الكلمات والقواميس والكتب والمعاجم، ورفيقتي نائمة إلى جواري، بينما الريح في الخارج تحدث جلبتها المعتادة، تقرع النوافذ وتنتقم من الأشياء الخفيفة، مُطَيِّرة إيّاها في الشارع أسفل العمارة.
ما أردتُ قوله: صحوتُ وفي حلقي عطش بيِّن كالسُّكْر، وفي داخلي هوس يبحث عن النقطة.
6-
اتصل بي صديق من صحار هذه الليلة، مستغيثاً بنقطة أو فاصلة معقوفة، دون أن يدري أنني مُبتَلَع، وأنني في ذيّاك الوقت، واقف في حنجرة النقطة، دون أن أجرؤ أن أرتفع أو أنخفض، أن أكون مطروداً كبلغم أو سائغاً كلقمة.
7-
تلك النقطة: لماذا يكرعها الطلليون، الجميلون، المخبرون السريون، المجانين، المعتوهون، الأنذال، الفوضويون، الطيبون، الكارثيون، الساديون، المازوخيون، الشفافون حتى أنه لا يمكن رؤيتهم، النقاد الطليعيون، النزقون، المدمنون على الألحان الرتيبة، أصحاب اللحى التي ترقص السامبا، الطاعنون في أمر الطرقات، الملتاثون، المضطربون، المنتقمون من أنفسهم، التالفون، القاضمون للتفاحة السرية، الغارقون في الموجة الصغيرة، المراؤون، الدجالون، المشعوذون، السطحيون، العارفون، البالغون، المرتعشون، الجبارون، الرعديدون، الصحفيون، الفلاسفة، المومسون، القوادون، المتغضنون، المغنون الذين تطيش بهم القصائد إلى رعشة أو إلى نوبل، المسحورون، اليساريون، اليمينيون، المجربون المولعون بنسف التجارب السابقة، المتكرشون، الحمائم، الصقور، الوردة، الشوكة، القذف، الحقيقة الغائبة، الحناء، الجوهرة، النفاية، الهامش، المتن، المولودون الآن في مستشفى خولة.
8-
هناك محترم واحد في هذا الكون، شخص مبجّل، غير موجود، يوقِّع بعد اسمه مباشرة: «نقطة»؛ ذلك أنه يقدس الآباء النازحين إلى السرّ والأمهات العاشقات للطرقات والإخوة الذين لا يعد حضورهم سوى رواية فكهة أو مزحة مقبولة.
9-
عندما ننهر إجابة ما: تقف نقطة متبجحة، يتسوّل سؤالها بفظاظة في آخر السطر.
10-
لو كان جميع الناس نقاطاً فحسب، لأصبحوا متساوين في ميزان العدالة كأسنان المشط!.
11-
«الفنتازيا ليست منحة من السماء لكنها جنين أرضيّ متوحش، إنها كائن يتزامن مع شوقنا المبعثر في هذه الحياة، مع سيرورة زمننا الذي لا يمكن قط أن نعرف متى هي بدايته ولا نهايته، ولا أين هو رأسه أو ذيله؛ لأنهما متشابكان ومتداخلان، يحبل أحدهما بالآخر، ويلده مراراً وتكرارا»:
مقدمة من هذا القبيل ليست ضرورية للتحدث عن رمح، صدئ أو صقيل، بل عن نقطة قفّازة، ضامرة بالجمال، مشبعة بالمفاجآت، ذربة ذات أعياد، مولعة ذات مقابر، شهية ذات موائد، زلقة ذات أراجيح، عاتية ذات أمواج، فطِنة ذات مراكب سكرانة، يقِظة ذات أعين مشغولة بنسج الأحلام والمفاجآت المدهشة.
12_
استمرأتُ النقطة وقُبلاتها المجنونة، لذلك يبدو نصي مفتوحا على اللُعاب والألعاب.
13-
الجملة التي تغلقها النقطة هي مجزرة، والعبارة التي تتخندق وراء النقطة مذبحة كونية.
14-
هناك نقطة أخرى، تسبح في طيورها الهائلة، تسقسق الأمس والآن وغدا. تتهكّم على نفسها، شفيفة، تسوق الغيوم في مرآتها، تفطر على نملها الوحشيّ. نقطة كأنها ملجأ من القصف الغادر، أو أنها محض طريقة في رفع القبعة أو التعامل مع طفل أو التزحزح عن طريق الأعمى.
نقطة برمائية، يلفحها الصيف والشتاء، تجوز الكون برحم غير مغلق، بشبق مرتعش على أغصان الليل وياسمين الكتابة.
15-
النقطة التي تقوي الأبدان، التي تأكل الروح. النقطة العارية التي تستحم في النهر العاري والكتابة العارية.
16-
أما آن للنقطة أن تكف عن إلقاء البذور؛ لكي يتفرغ العالم لمعنى الأشجار؟. أما آن للشجرة أن تنخرط في السُلّم الأمثل، كي تصعد إلى نقطتها المباغتة، إلى نقطتها الأولى ذات الثماني شعب؟.
17-
من على البرج تسقط نقطة كي تملأ البحر. من على الجسر تقفز نقطة كي تتواشج اللغة وتمتد المسافة.
18-
كل سطر فانٍ، إلا نقطته الوقحة الخالدة.
___
*جريدة عُمان

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *