هل فشل فيلم “فتاة القطار” في الوصول إلى هدفه؟

*نيكولاس باربر

رغم أن الفيلم الجديد “فتاة القطار“، الذي تقوم ببطولته الممثلة إميلي بلَنْت، مُستوحى من روايةٍ مفعمة بالإثارة للكاتبة بولا هوكينز، فقد فشل العمل في الوصول بـ”السرعة الكافية” إلى هدفه، كما يقول الناقد السينمائي نيكولاس باربر.

بيعت 15 مليون نسخة في مختلف أنحاء العالم من رواية “الفتاة في القطار” (والتي عرفت تجاريا باسم “فتاة القطار”) للكاتبة بولا هوكينز. ويُعزى ذلك بشكل كبير إلى فكرتها المحورية الرائعة التي لا تُقاوم. فبطلتها “ريتشيل”، سيدة بائسة مطلقة سِكيّرة، تستقل القطار يومياً في رحلتها بين لندن وضواحيها.

وقد اعتادت خلال هذه الرحلة التحديق مرتين – ذهاباً وإياباً – في منزلٍ يقع على الطريق ويقطنه رجل وامرأة، يحلو لـ”ريتشيل” تخيل أنهما يعيشان حياة زوجية مثالية، تماماً كحياتها مع زوجها عندما كانت تقطن في منزل يقع غير بعيد عن ذاك المنزل، قبل أن يؤدي عجزها عن الحمل والإنجاب إلى انفصام علاقتها الزوجية، ومن ثم معاقرتها الخمور بإفراط.

161014192633_the_girl_on_the_train_film_640x360_gettyimages_nocredit

لكن أوهامها بشأن من تصورتهما “زوجين مثالييّن” تتحطم فجأة عندما ترى المرأة، وتُدعى مِغان، تقبل رجلاً آخر. في اليوم التالي تختفي “الزوجة المثالية المفترضة”، لتتخوف ريتشيل من إمكانية أن تكون ضالعة في هذا الأمر، فهي كانت ثملة للغاية في ليلة الاختفاء، ما يجعلها عاجزة عن تذكر ما الذي فعلته خلالها، أو إدراك لماذا انتهى بها المطاف في الصباح مُثخنةً بجروح وكدمات بالغة.

وهكذا تبدو الفرضية التي تقوم عليها الرواية آسرةً للغاية، وشبيهة بتلك التي تمحور حولها الفيلم الشهير للمخرج ألفريد هيتشكوك “رير ويندو” (النافذة الخلفية)، الذي يدور حول مصورٍ مصاب بكسر في ساقه ما يجبره على البقاء بجوار نافذة منزله طيلة الوقت ليرى ما يبدو له أنه جريمة قتل يبدأ في محاولة كشف غموضها.

الاختلاف أن النافذة في روايتنا هذه متحركة. رغم ذلك، فمن المدهش أن نرى كيف بددت الكاتبة الفرصة في الاستفادة بهذه الفكرة الأخاذة. فالبطلة – على سبيل المثال – لا تبذل بنفسها جهداً يُذكر لتقصي حقيقة ما جرى في هذه الليلة الغامضة، بل تكتفي بالسير هنا وهناك على غير هدى لثلاثمئة صفحة تقريباً من الرواية، وهو ما ستواصله لمئة صفحة أخرى، حتى بعدما تتذكر – دون مشقة – ما جرى لها في تلك الليلة.
161014192723_the_girl_on_the_train_film_640x360_gettyimages_nocredit

الأسوأ من ذلك، أنه ليس لديها ما تخسره من الأصل كونها في الحضيض بالفعل، كما أن سير الأحداث يجعلها دائماً آمنة من أي خطر. وربما لهذا السبب، تعمد البطلة – حسب الرواية – إلى تعريض نفسها للخطر بغباء، فلولا ذلك لم يكن ليصبح للعمل ذروةٌ درامية من الأساس.

وإذا لم يبد كل ما سبق مزعجاً بما فيه الكفاية، فلننظر إلى التناقض ما بين عنوان الرواية وأحداثها. فالبطلة ليست فتاة وإنما سيدة في الثلاثينيات من عمرها. فضلاً عن ذلك، يتضح بمرور الأحداث أن مسألة تنقلها بالقطار أحياناً لم تعد ذات صلة تقريباً بما يجري في الرواية، وهو ما يحدونا للتفكير في أن اختيار عنوان آخر على شاكلة “السيدة الفاقدة لعقلها” كان سيصبح ملائماً بشكل أكبر لهذا العمل.

رغم ذلك، فأوجه القصور في روايةٍ ما لا تشكل بالضرورة أمراً سيئاً، إذا ما تعلق الأمر بتحويلها إلى عمل سينمائي. فعلى سبيل المثال، واجه المخرج دافيد فينتشر مشكلة مع “فتاتيّن” من قبل، أو بعبارة أخرى في تحويل روايتين يحتوي عنوانٍ كل منهما على هذه الكلمة؛ وهما “ذا غيرل ويذ ذا دراغون تاتو” (الفتاة ذات وشم التنين) و”غَن غيرل”، الذي قُدم تجاريا باسم “الزوجة المفقودة”.

فالروايتان كانتا زاخرتين بالأحداث، بقدرٍ جعل من الصعب على فينتشر استيعابها كلها في ساعتين فحسب، هما مدة عرض كل منهما. ومن هذا المنظور، تمنح رواية “فتاة القطار” الفرصة لصناع الفيلم المأخوذ عنها، لوضع الكثير من التفاصيل المثيرة في العمل المرئي، وذلك لملء الفراغ الناجم عن الهزال الشديد الذي تعاني منه أحداث الرواية.
161014192744_the_girl_on_the_train_film_640x360_gettyimages_nocredit

ولكن ذلك لم يحدث في العمل، الذي أخرجه تَيت تايلور (مخرج فيلم “مساعدة”)، وكتبته إرين كرسيدا ويلسون (التي قدمت من قبل فيلم “السكرتيرة”). فذاك العمل السينمائي، ذي السمت الكئيب الذي يبدو تجميعاً لشظايا متناثرة غير ذات صلة ببعضها البعض، يأخذ كل سلبيات رواية هوبكينز ويجعلها أسوأ مما كانت عليه.

ولذا فإذا ما شاهدت الفيلم بعد قراءتك للرواية، فستشعر بالضيق لما طرأ على النص المكتوب من تغييرات، أما إذا شاهدته دون أن تكون قد طالعت العمل الروائي من قبل، فستنتابك الدهشة والعجب والذهول، من أن رواية مثل هذه حققت مبيعات هائلة من الأساس.

على مسار خاطئ

ومن الواضح أن عدداً محدوداً من هذه التغييرات كان لأسباب تجارية. فمسرح الأحداث، إن جاز لنا استخدام وصف أحداث من الأصل، تغير من ضواحي لندن إلى ضواحٍ مماثلة لها ولكن في نيويورك.

أما المنازل التي ظهرت على الشاشة، فقد بدت أكبر وأكثر فخامة من تلك التي وُصفت في الرواية. الأمر نفسه ينطبق على ملامح البطلة وطبيعة شخصيتها. فدور “ريتشيل”، التي وُصفت مراراً في العمل الروائي بأنها امرأة بدينة غير جذابة، أُسند إلى الممثلة إميلي بلَنْت، والتي لا تتسق ملامحها بشكل يذكر مع ذلك الوصف، حتى بذاك الكحل الذي وُضع بكثافة وعلى نحو مشوش فوق عينيها، لإعطاء انطباعٍ بأنها ليست سوى حطام امرأة، تعكف طيلة الوقت على احتساء مشروب “الجِن” المُسكر بشراهة.

في الوقت نفسه، بدت بضعة تغييرات محيرة على أفضل التقديرات. فلماذا – على سبيل المثال – أُعطي للطبيب المعالج لـ”مِغان” (يقوم بدوره إدغار راميريس) اسما بلقانياً في الفيلم – وهو ما يتسق مع ما قيل عن أصله في الرواية – بينما قُدم على الشاشة على أنه من أصل أسباني؟ ولِمَ حُوِّلت مهنة ريتشيل لتصبح رسامة شديدة البراعة في الفيلم، طالما أن لا علاقة للوحاتها بالقصة والأحداث؟

لكن المشكلة أن قسماً ثالثاً من التغييرات التي أدخلها صناع الفيلم على الرواية، كان لا يثير الحيرة بقدر ما يلحق الضرر بالعمل ككل، إلى حدٍ يجعل هذه التغييرات، وكأنها وُضعت خصيصاً لجعل الفيلم أقل جاذبية وإحكاماً من الوجهة السينمائية، وليس العكس.

فمنذ البداية، يقوض العمل – ولعدة مرات في الدقيقة الواحدة – تلك القاعدة الذهبية لفن السينما، التي تقوم على أن التعبير عن المشاعر والأحاسيس والأفكار وردود الفعل وتقديم الأحداث، يتم في الأساس من خلال تقنيات الصورة السينمائية، وليس عبر الحوار المنطوق.

فعندما تظهر ريتشيل للمرة الأولى على الشاشة، نجد صورتها مُصاحبة بتعليقٍ صوتي منها يبدو مملاً وثقيل الظل، تخبرنا فيه بهويتها وطبيعة مشاعرها. بل إن صناع الفيلم بدوا غير واثقين في قدرتها التمثيلية على إيصال رد فعلها لنا عندما رأت “مِغان” (جسدت دورها هيلي بنيت)، وهي تتبادل القبلات مع شخص آخر غير زوجها، إذ جعلوها تعبر عن رد الفعل هذا عبر كلمات من قبيل : “من هذا الرجل؟ ما الذي تفعله هذه السيدة؟”.
161014192812_the_girl_on_the_train_film_640x360_gettyimages_nocredit

ولا يقتصر الأمر على ريتشيل وحدها، بل يمتد لـ”مِغان” وكذلك لـ”آنا” (تؤدي دورها ريبيكا فيرغسون) وهي الزوجة الحالية للزوج السابق لريتشيل، الذي يُدعى توم (ويجسد شخصيته جاستِن ثرو)، إذ تتوزع مدة الفيلم بالتساوي تقريباً بين السيدات الثلاث، بخلاف الرواية التي سُردت الغالبية العظمى من أحداثها على لسان ريتشيل وحدها.

وهكذا، نشاهد هؤلاء النسوة وهن منهمكات طيلة الوقت في الحديث تفصيلاً، عما يدور بخلدهن. وتُوجه أحاديثهن في هذا الشأن؛ إما إلى أنفسهن عبر تعليق صوتي، أو لأطفالهن، أو للطبيب المعالج، أو حتى للمحققة التابعة للشرطة (تؤدي دورها أليسون جاني) التي تتولى التحقيق في واقعة اختفاء مِغان دون أن نراها تبذل أي جهود فعلية في هذا الصدد.

اللافت أن اللحظات التي كان يتوجب أن تمثل نقاط تحول دراماتيكية في الفيلم، لا تُستغل من قبل صناعه على الإطلاق، مثل تلك اللحظة التي كانت فيها ريتشيل تُكره نفسها تقريباً على الحديث إلى زوج مِغان مفتول العضلات (يجسد شخصيته لوك إيفانز).

وقد يعود ذلك – على ما يبدو – إلى أن صناع الفيلم كانوا حريصين على العودة طوال الوقت تقريبا إلى النسوة الثلاث، وهن يتحدثنّ على نحو وعظي ومفصّل عن حياتهن وذكرياتهن، بينما تسيل الدموع بغزارة على وجنة كل منهن.

ولذا يبدو إجبار المرء نفسه على الجلوس لمشاهدة الفيلم كاملاً تجربةً أقرب إلى الاستماع لمسرحية إذاعية بالتزامن مع التحديق في صور أناسٍ يغمرهم الحزن، منها إلى مشاهدة عمل سينمائي مُفعمٍ بالغموض والإثارة.

من جهة أخرى، يؤدي استخدام المخرج لتكنيك التنقل المستمر – بلا نهاية تقريباً – بين رواة متباينين لكلٍ منهم وجهة نظر مختلفة عن الآخر، إلى جعل “قطار الأحداث” عاجزاً عن استجماع سرعته أو الانطلاق في مساره، بل يجعله يتحرك بتثاقل وضجيجٍ كبيريّن أماماً وخلفاً في المكان نفسه تقريباً.

بل يبدو قطارنا هذا وكأنه يتوقف كذلك في كل محطة على طول مساره. فالفيلم يتضمن لقطات استعادة الماضي (فلاش باك)، التي تتضمن بدورها لقطات (فلاش باك) أخرى. وكل ذلك دون أن يدنو “قطارنا” قط من مقصده، وهو التعرف على طبيعة ما حدث لـ”مِغان”.

المحبط ربما أن تأمل الفيلم بقدرٍ أكبر من التدقيق، سيجعل المرء يوشك على إدراك الهدف الذي كان صناعه يحاولون تحقيقه.

فبدلا من الاكتفاء بتحقيق أهدافٍ محدود القيمة من قبيل تسلية الجمهور، كان كاتب العمل ومخرجه يسعيان إلى صياغة صورة فسيفسائية التصميم معقدة الطابع، يتم في إطارها المقارنة بين الشخصيات النسائية الرئيسية الثلاث، والتعليق على دائرة الإذلال والإنكار، التي تمر بها هذه الشخصيات.

ولا شك في أن هدفاً كهذا نبيلٌ إلى حد ما. لكن المشكلة تتمثل في أن المادة الخام للفيلم، وهي الرواية التي كتبتها هوبكينز، كانت ذات قدر يجعلها ملائمةً أكثر لأن تتحول إلى فيلمٍ مفعم بالإثارة على شاكلة أعمال مماثلة ظهرت في عقد التسعينيات.

فعلى الأقل كان يمكن لذلك أن يجعل الفيلم مسلياً لمشاهديه. لكن الفيلم بحالته التي رأيناها، كان ينطوي على أهداف وأفكار فاقت كثيراً قدرته على إيصالها لمشاهديه.
____

BBC

شاهد أيضاً

“أثر على أثر” معرض لمفاضلة في المتحف الوطني

(ثقافات) “أثر على أثر” معرض لمفاضلة في المتحف الوطني برعاية العين د. مصطفى حمارنة ينظم …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *