في إحدى ليالي فصل الخريف، كنت منهمكا مع بحث حول الشعراء العرب المميزين في القرن العشرين. فبدأت أبحث عن الأسماء الوازنة التي تركت بصمتها في الشعر، تعبت من البحث، وركنت في ركن غرفتي كي أستريح قليلا، فإذا بي أسمع صوتا قويا، ظننت للوهلة الأولى أنه صوت مذياع لأحد جيراننا، تكرر الصوت مرة أخرى لكنه هذه المرة لم يكن بعيدا مني، فقمت لأبحث عن مصدر ذلك الصوت، فإذا بي أجد أخي في الغرفة الأخرى يشاهد على حاسوبه فيديو،
فصرخت في وجهه: يا هذا ألا يمكنك أن تخفض صوت الحاسوب قليلا؟
أجابني: لا يمكنني يا أخي.
قلت له: لماذا؟
قال: أنا أشاهد وأستمع للشعر
سألته: أنت يا أخي تخصص علوم مالك وللشعر؟
أجابني: وهل الشعر حكر على الأدبيين فقط؟
قلت له: ربما
أجابني: ليس الأمر كذلك، الشعر يولد لدى عامة الناس وباختلاف تخصصاتهم ومشاربهم، فهناك أطباء، ومهندسون، عاطلون عن العمل، موظفون، مجانين في علم الشعر.. الشعر يجمع هؤلاء جميعا.
قلت له: ما علينا فلنعد إلى الشيء الذي تشاهده الآن. سألته: هل تحب الشعر؟
أجابني: ايه نعم
أعدت السؤال: ماذا تشاهد الآن؟
أجابني: هل تعرف شاعرا يكتب الأشعار ولا يبحث عن القراء، يكتب ويمزق كل ما كتبه، شاعر أحب الحياة وأحب بلده، فنُفي بالرغم منه. ولا يبحث عن الشهرة ولا يسوّق لها بل شهرته تكمن في شعره وقرائه هم الذين يفتخرون به وبنصوصه الشعرية .
قلت له: من يكون؟
أجابني: الشاعر العراقي عواد ناصر، فهو يا أخي ليس من جيلك أو جيل أصدقائك، هو أكبر منك بكثير، فهو من مواليد 1950 بمحافظة ميسان.. ماذا سأقول لك يا أخي عن هذا الشاعر الذي عانى ولا زال يعاني مرارة المنفى وغربة الوطن، حياته سفر من مكان إلى آخر، تارة ها هو ببيروت وتارة أخرى هو بدمشق، يكابد ويقاسي.. شاعر علمه السفر معنى القوة .
فبيروت فتحت له ذراعيها وتعرف على معظم شعرائها، ودمشق ألهمته التاريخ والحضارة، لكونها منارة ثقافية.
في كل مكان ينتقل إليه عواد ناصر، إلا والعراق يسكنه.
بعد عام 1992 أقام ناصر بلندن بشكل مستمر، تلك المدينة التي تضم كبار المثقفين، لا يرى عواد شارعا ما في لندن إلا ويخيل إليه أنه يتجول في شوارع بغداد والبصرة.
سأضيف لك يا أخي شيئا لا يخطر على بال، كل شاعر في العراق يعرف هذه الأبيات الشعرية التي قالها الشاعر الفلسطيني محمود درويش:” الشعر يولد في العراق فكن عراقيا لتصبح شاعرا يا صاحبي” .
عواد ناصر هو رمز شاعر المنفى، هو رمز المعاناة، ناضل في الحزب الشيوعي، وتلقن مبادئه، فالثقافة هي بوابته إلى عالم الفكر. الشاعر كائن حر يشبه الطائر لا يحب قيودا ولا يحب سجنا فكريا، يحب أن يحلق بجناحيه حرا طليقا ويترجم ذلك في قصائده، و الحرية عنده سيدة الموقف.
أعدت السؤال لأخي: لماذا ربطت عواد ناصر بالمنفى؟
أجابني: شعره يعبر عن المنفى، فالشاعر لديه صفحة بيضاء ، وإن أحس بالإحساس البعد والحنين والغربة، يتألم كثيرا ويكتب الشعر، ليجد بأن ما يكتبه هو الراحة التي يبحث عنها.. في شعر عواد ناصر حرقة عن العراق، حب العراق، في العراق هناك ذكريات عن الأم والأب والأخوة والبدايات الأولى. في العراق تاريخ البابليين والسومريين والآشوريين وحضارات أخرى، ناهيك عن بغداد عاصمة الفكر وجنة المعرفة، في بغداد بيت الحكمة ونهر دجلة و شارع الشاعر أبو الطيب المتنبي، ذلك الإرث هو الذي يفتخر به عواد ناصر.
سألني: عواد ناصر شاعر يمتلك ناصية الشعر، أما سمعت لصوته وهو يقرأ القصيدة، إنه إحساس لا يحس به إلا المنفي عن وطنه، الوطن يذكرنا بالحبيبة التي ما أن نخرج من بلادنا حتى تصبح وطنا، وعندما كنا هناك في الوطن كانت لنا الحبيبة حقيقة امرأة بجمال عراقي خاص. كتب عن المنفى كثيرون، ليسوا فقط في جنس الشعر بل حتى في الرواية و سأذكرك يا أخي برواية “حب في المنفى” للكاتب المصري بهاء طاهر.
أما عن عواد ناصر فإنه للإشارة فقط أنتج العديد من الدواوين الشعرية أهداها للمكتبة العراقية خاصة والعالمية عامة ولعل أبرزها: “من أجل الفرح أعلن كآبتي” وديوان آخر بعنوان “حدث ذات وطن” ودواوين أخرى نالت إعجاب الجمهور.
فقلت له: آه يا أخي، أمثال عواد ناصر هم الذين يملؤون العالم ويعبرون عن معاناتهم.
فرددت: أخي العزيز، أولا أحييك لأنك عرفتني على شاعر حقيقي مميز، شاعر مؤثر، وهذا هو الذي أبحث عنه في بحثي، فالشعراء طبقات، هناك الذي يكتب الشعر وهناك من يكتبه الشعر، فالأستاذ عواد ناصر يكتبه الشعر لذلك يؤثر على القراء.
ثم سألته: يا أخي ألا تحفظ أبيات للشاعر عواد ناصر، من فضلك أتحفني ببعض أبياته.
فرد علي : بكل فرح:
” وطني ليس لي
وأنا لست له
لم يكن وطني منذ خمسة الآلاف عام
سوى غربة ماثلة
أأدخله مثل لص
وأغادره مثل لص
ولست سوى سارق النار من شرفة الله
إنه وطني
وطني السنبلة
كلما أوشكت أن تتطاول أبعد من قامة النبت
ثمة من ينتضي منجله “
رددت على أخي: اه يا أخي وقعت الكلمات في قلبي وتركت أثرا عميقا على القلب.
قال لي أخي: ينقص القصيدة صوت عواد ناصر، نظر إلي وقال أراك تبكي يا أخي.