“جنّة العميان” للفيتنامية تيو هيونغ.. الرعب الثوري

*هيثم حسين

تستعيد الفيتنامية ديونغ تيو هيونغ في روايتها “جنّة العميان” جانباً من التغييرات التي اجتاحت الحياة بمختلف تفاصيلها في بلدها في منتصف القرن العشرين حتّى ثمانينيّاته، وما قامت به العصابات المتسلّطة على الحكم، تلك التي نصّبت محاكم ثوريّة أنشئت باسم الثورة، من نسف للبنية الاجتماعية بحجة تطبيق ما أطلقت عليه توصيف العدالة الاجتماعية.

تثير الروائية أسئلة من قبيل: أيّة جنّة مفترضة قد يهندسها العميان؟ هل يمكن لمَن أعمتهم الأحقاد تشييد أيّ بناء مأمول يفيد أبناء الوطن؟ أي عمى يقود المتاجرين باسم الثورة لإنتاج مزيد من التخريب والإفساد؟ أيّهما يكون أكثر قسوة من الآخر عمى البصر أو عمى البصائر؟ ألا يكون المجتمع الذي تستعدي فيه فئة متسلّطة بقيّة الشرائح مستنقعاً للأحقاد وبؤرة للعداوات القاتلة؟ ألن تكون تلك الجنّة المتخيّلة عمياء مخادعة مضلّلة بدورها وجحيماً لأصحابها وزمنهم ومستقبلهم أيضاً؟ أيّة جنّة قد يؤسّسها جائعون وجهلة؟

هيونغ المقيمة في فرنسا، والتي سبق لها أن سجنت ومنعت كتبها في بلدها، تسخر بصيغة غير مباشرة من الآليّات التي لجأت إليها السلطات في فيتنام للانتقام من أولئك الذين اعتبرتهم مناهضين لها، وكيف أنّها بدأت بتلفيق التهم لهم، بحيث أصبحت ملكية أراض زراعية بسيطة تهمة يعاقب عليها قانون أولئك الذين أعمتهم الشعارات التي غذّت لديهم الرغبة في الفتك بالمختلفين.

تنتقل الراوية هانغ في رحلة عبر الذكريات إلى ذاكرة الرعب التي تختزنها، تمضي إلى مستقبلها محمّلة بإرث الأسى والغضب، تذكر وقائع من التفتّت الأسريّ الذي خلّفه سعار التهافت على المكاسب، وكيف جهد بعضهم على التنكيل بأقرب مقرّبيه وتهديدهم حفاظاً على امتيازاته، من ذلك مثلاً ما أشيع في القرية عن جنون “كيه” أخت القيادي الحزبي تشين الذي بدأ بتدبيج معلّقته البائسة لأخته، وحضّها على التخلّص من خيال زوجها الراحل، كي لا تستجرّ نقمة الحزب عليها، ويخبرها أنّها توشك على تدمير سلطته وسعادته، وأنه لا يوجد مَن استطاع تطبيق الإصلاح الزراعي على نحو سلس مثله، وهي على وشك هدم كل جهوده.

يخبر تشين أخته أنها تنتمي إلى ما يسمّيها بالطبقة الأساسية؛ البروليتاريا، ويدعوها لأن تفكّر جيداً، وتختار إمّا مستقبلاً مشرقاً تقوده الثورة أو سيكون لديها الإقصاء والطرد من صفوف الثوّار والهبوط إلى مستوى أعداء الشعب. ثمّ تكون المهزلة بعد ذلك بوقوعه ضحيّة عماه وانتهازيته، إذ تصل لجنة تطلق على نفسها لجنة تصحيح الأخطاء، وذلك بعد تسميم أجواء القرية بالشرّ والوشاية والقتل والانتقام، ولا تفلح محاولات تهدئة الخواطر بقدر ما تثير السخرية وتجلب مزيداً من التعامي عمّا اقترف من جرائم، ولا يجدي التعتيم عليها أو إطلاق تسميات عليها.

تتذكّر الراوية هانغ فقدها لأفراد من أسرتها في طفولتها، ورحيلها بعد ذلك إلى موسكو، والتعامي القاتل الذي كان يسود بين أبناء البلدة الذين تسلّطوا باسم الحزب الثوريّ على الآخرين وجرّدوهم من أملاكهم وثرواتهم، واعتبروهم أعداء يجب التنكيل بهم. كما تراها تسرد مشاهد من العبثية التي كانت تسود في ظلّ العمى الذي كان مستشرياً بين المثرثرين بالشعارات والأفكار بطريقة ببغائيّة، من دون أن يفقهوا من معانيها شيئاً.

تفتقد الراوية حضور الأب، وهو افتقاد للحضور الرمزيّ بالإضافة إلى الحضور الفعليّ، ولا تجدي محاولات السلطة الثوريّة النهوض بدور الحامي لأبناء الشعب بتعويضها، بل بالعكس تفاقم من مأساتها ووحشتها، تتذكّر والدتها وهي تمسك بيدها دون أن تتفوه بحرف، تعرف أنها تجعلها تتألم لكنها لا تستطيع أن تتمالك نفسها، تعاني من عزلة المكان، كلّ ما حولها بأنّها من دون أب، وتبدو لها أمّها أيضاً وحيدة ومهجورة.

تلفت الراوية إلى انتشار أوبئة اجتماعية كثيرة واعتكار العلاقات وتسمّمها بالعداوات، وحالة الوالد المعلم الهارب وبحثه عن ملاذ آمن وخيبته بما يراه من استبداد الجهل، تصوّر ميدان المدينة الذي كان يستخدم كساحة للاحتفالات ساحة محكمة صورية، ينقلون إليها مَن وُصفوا بأعداء الثورة للتنديد بهم، وللامتثال لمحاكم الفلاحين، حيث كانت دوريات مقاتلين تجوب الشوارع، وكان وجود شخص غريب لدى أحدهم ذريعة للضغط، أو خدمة لانتقام بعض الحسّاد، الذي نقد  يتهمونه بأعمال التخريب، بالتواطؤ مع ملاّكي العقارات أو القوميين الفارين، أو، على أقل تقدير، بأن تصرفه معادٍ للثورة.

تدين الروائيّة التوثين الذي كان يسبغه أعضاء الحزب الشيوعي على حزبهم الفاشي، وكيف كان يتمّ تجاوز القوانين بحجّة الحفاظ عليها، كأن يتمّ الاعتقال على الشبهة أو نتيجة وشاية كيديّة أو عداوة شخصيّة، والقول بضرورة السيطرة على المحرّضين وإلا ستحلّ الفوضى، وتستحضر مقولة لسكرتير الحزب في البلدة وتنكيله بمَن أشار إليه بذمّ وتأكيده على أنّ كلّ سلطة هي ديكتاتورية، وأنّه يجب تطبيقها دون ضعف، وأنّ كل دولة تتطلب الخضوع للسلطة، واحترام القوانين.

تعود هانغ إلى بلدتها من موسكو، تقرأ وصية عمتها الراحلة، تصف مشهداً شاعريّاً لا يتوافق مع حالة البؤس في المنطقة، والوضع المزري الذي وصلت إليه نتيجة ممارسات الخداع والفساد المكرّسة، ينتابها إحساس غريب مختلف بالوقت وهو يمضي، تشعر بأنه  كان ينساب كالمذنبات في الأعالي، ومن ثم ينمحي، بينما الذاكرة ترفض أن تغيب، تعترف لنفسها أنّه لم يكن لنقود الجحيم قيمة إلا في سوق الوجود، وترجو أن تسامحها عمّتها على ما تنوي فعله من بيع المنزل ومن ثمّ الرحيل.

تؤكّد الراوية لنفسها – وكأنّها في تأكيدها تعكس أصداء ما أقدمت عليه الروائيّة نفسها – أنّها لن تبدّد حياتها بالاعتناء بأزهار ذابلة، بسبب ذكرى أخطاء لم تقترفها، وأنّها تريد أن تهرب من العتمة نحو مستقبلها بعيداً عن تلك الموصوفة بـ”جنّة العميان”، تتخيّل حالتها بعيداً عن ذاك المكان، ترى جنّتها الفرديّة بمعزل عن تلك الدائرة المغلقة من الجهل والعمى، تكون جنّتهم المفترضة جحيمها الواقعيّ، لذلك تهرب نحو مستقبلها، ترحل باحثة عن فردوسها المفقود.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

صدرت عن دار دال السوريّة، ترجمة راغدة خوري 2016

المدن

شاهد أيضاً

فرويد وصوفيا في جلسة خاصة

(ثقافات) فرويد وصوفيا في جلسة خاصة د. صحر أنور جلس سيجموند فرويد أمامها ينظر إلى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *