النص الذي يخرج إلى القارئ، تصحبه معاناة لا تبدأ بالفكرة التي يبحث عنها المؤلف، وهناك من يلتقط أفكاره من الطرقات كما قال الجاحظ قديما، أو من على المقاهي كما كان يفعل نجيب محفوظ. بل إن المعاناة تتلاحق أيضا في أوقات الكتابة التي هي مختلفة وتكشف أنّهم في الكثير من الأحيان يعملون ضد نواميس الطبيعة وفي أحيان أخرى يعاركون الوقت والظروف حتى تخرج إبداعاتهم كما يشاؤون.
كان نزار قباني لا يستخدم إلا الأوراق الملونة، وجمال الغيطاني لا يكتب إلا بقلم فاخر كان من إهداء الكاتب محمد حسنين هيكل، في المقابل تجد أن كتاب الغرب يتميزون بالبساطة، فمعظم من شملهم التحقيق يميلون إلى الكتابة على الأوراق باستعمال قلم الرصاص، وينفرون إلى حدّ السخط من الكمبيوتر.
الالتزام الصارم
من الأدباء ما جعل الأدب بمثابة المهنة الرسمية لا في إضفاء عائد عليه، وإنما كوقت يحتاج للقداسة، ومن هؤلاء كان نجيب محفوظ، الذي عمل موظفا رسميا واكتسب من عمله على اختلافه الالتزام. فكان يكتب كل يوم في وقت محدّد من الساعة 4 إلى 7 باستثناء أيام الجمعة التي يخصصها للقاء الأصدقاء، هذا قبل تقاعده، ويلتزم بكل مستلزمات العمل الرسمي فيرتدي الملابس الرسميّة وكأنّه في عمل. لذا على غير الأدباء يعتبر نجيب محفوظ أن الوظيفة الرسمية “مادة إنسانية عظيمة أمدّته بنماذج بشرية لها أكثر من أثر في كتاباته” وإن كان يضيف إليها المقهى والحارة فثلاثتهم (الوظيفة والمقهى والحارة) مصادر رئيسية في أدب محفوظ، كما اعترف لرجاء النقاش.
ولا يختلف التركي أورهان باموق في عاداته عن نجيب محفوظ، فأهال على الكتابة قدسيّة وصرامة، حدت به إلى شراء شقّة تطلُّ على البوسفور في مواجهة لبيت العائلة، لتكون بمثابة مكتب عمل خاص بالكتابة، وعندما سافر مع زوجته إلى أميركا لإعداد أطروحة دكتوراه، تصادف أنْ سكنا في بيت للطلاب معا، وكان عبارة عن غرفة نوم وصالة وحمام، وهو ما سبب مشكلة كبيرة في عادة الفصل بين مكان الكتابة والمعيشة، فتفطن إلى حيلة أنه في الصباح يرتدي ملابسه ويخرج كأنّه ذاهب إلى العمل، وبعد دقائق يعود سريعا إلى البيت وقد هيّأ نفسه على فكرة أنه انتقل إلى مكان العمل.
ويشاركهما في هذا الأمر الروائي الأميركي من أصل أفغاني خالد حسيني، فعندما ينشغل بكتابة مخطوطة يأخذ أطفاله أولا إلى المدرسة عند الثامنة صباحا ثم يعود لممارسة البعض من الرياضة ثم يجلس إلى طاولة الكتابة في مكتبه الصغير عند التاسعة، ويواصل الكتابة حتى الثانية بعد الظهر حيث يتوجّب عليه الذهاب لجلب أطفاله من المدرسة وحينها يصير كما يقول “أبا بوقت كامل ولا أفكر في كتابة أي شيء آنذاك”. وكان دستويفسكي أثناء إملاء عمله تنتابه حالة من الاضطراب والقلق، وكان وقت الكتابة، وفق ما ذكرت عاملة الاختزال من الثانية عشرة إلى الرابعة عشرة، يملي خلال هذه الفترة ثلاث مرات تصل المرة إلى ما يزيد قليلا عن نصف ساعة.
عادة الجلوس على المكتب إذا كانت تروق للبعض فإنها لا تروق للكثيرين، فالكاتب الأميركي أرنست همنجوي يكتب وهو واقف، في حين أن الشاعر الأميركي من أصل صربي تشارلز سميك، كان يكتب وهو في السّرير، وأحيانا على الأرض واضعا وسادة عالية يتكئ عليها. أما الكاتب الروسي تولستوي فكان يملي ما يودُّ كتابته على عاملة الاختزال، ومن هنا بدأت علاقته بزوجته آنّا جريجوريفنا التي كتبت مذكرات عن حياتها معه.
وعدم التقيّد بالمكان كان السمة المميزة لكاتب الخيال العلمي، فراي برادبوري صاحب “فهرنهايت 451”، على حدّ قوله، “يستطيع الكتابة في أي مكان، لا فرق بين غرفة النوم وقاعة الأكل، حيث يذكر أنه عندما كان في طور النضوج قد كتب في عدة أماكن مختلفة”.
ضد التكنولوجيا
على الرغم مما وفّرته التكنولوجيا الحديثة من تقنيات سهلة وحديثة وأسرع في عملية الكتابة، إلا أن الكُتّاب مازالوا يميلون إلى التقنيات القديمة، حتى يبدو أن ثمّة ارتباطا أو علاقة من نوعٍ خاص بينهم وبين الورقة والقلم مُقابل الكمبيوتر والألواح الرقمية. فالكاتبة أيريس مردوخ كانت تكتب بطريقة تقليدية عبر استخدام الورقة والقلم ولا تستخدم الكمبيوتر، وبالمثل كانت تفعل الكاتبة الأميركية توني موريسون، التي تكتب بقلم الرصاص ولا تستعين بالكمبيوتر إلا لتبييض النسخة الأولى، وإن كان ثمة طقس آخر حيث تكتب فجرا قبل أن يستفيق أطفالها. ويعلن شينو أتشيبي الروائي النيجيري عن أنه بدائي جدا في وسائل الكتابة، فهو يلتزم بالقلم والورقة أثناء الكتابة، على العكس تماما من خوزيه ساراماغو، حيث يكتب رواياته مباشرة على الكمبيوتر، مثله مثل الأفغاني خالد حسيني.
ولازمت فوبيا التكنولوجيا البعض من الكتاب مثل بول أوستر بسبب التفكير في إمكانية أن يفقد ما كتبه في يوم ما بسبب الفيروسات أو أي خطأ تقني، لذلك يفضل الكتابة في دفاتر صفراء صغيرة وبقلم رصاص. أما الكاتب الأرجنتيني ألبرتو مانغويل فيراهن على استمرار الكتاب الورقي وأنه لا يمكن أن يختفي يوما، ففكرة استبدال تقنية ما بتقنية أخرى وأن تظل وحيدة في السّاحة على سطح الكوكب الأرضي هما بالضبط ما لم يحصلا من قبل. وإن كان في حوار ثان قد طوّر من هذه النظرة وذكر أن التقنية الإلكترونية يمكن لها أن توفّر البعض من الخاصيات التفاعلية التي نحوزها عند قراءة الكتاب الورقي الاعتيادي.
الكاتب الإيطالي إيتالو كالفينو لديه ولاء للقلم أيضا، إذ تساعده الورقة والقلم على إجراء الكثير من التصحيحات، فهو يشطب كثيرا كما يقول وفي العادة يكتب بحرف صغير لذا تمر عليه لحظات يعجز فيها عن قراءة ما كتب بنفسه، وهو ما يضطره للاستعانة بعدسة مُكبّرة تعينه على قراءة ما سبق أن كتبه بخط يده. لكن أغرب عاداته أنه يكتب بخطين مختلفين، الأول كبير الحجم وهذا النوع من الخط مرتبط بوثوقه التام في ما يكتب، أما الثاني فصغير الحجم ويستخدمه عندما يكون في حالة أقل وثوقية.
ثمّة عادات معينة أشبه بمتلازمة للكتابة كممارسة رياضة المشي قبل الكتابة، فبول أوستر صاحب “اختراع العزلة وثلاثية نيويورك” يعشق المشي، وكذلك الحال بالنسبة إلى الأسترالي توماس كينلي الذي يرى أن ساعة وخمس دقائق من المشي ضرورية قبل الكتابة. وعلى حد وصف أحد الكتاب، فإن جون ماكسويل كوتزي الكاتب الجنوب الأفريقي، يظل “رجلا يمتلك التكريس والانضباط الذاتي في عمله مثلما يفعل أكثر الرهبان تزمتًّا، فهو لا يتناول المشروبات الكحولية ولا يدخنّ ولا يأكل اللحوم ويمضي مسافات طويلة بصحبة دراجته الهوائية بغية الحفاظ على لياقته البدنيّة ويعمل لساعات مُحدّدة مِن صباح كلّ يوم إلى سبعة أيّام في الأسبوع”، وَيُعرف عنه ابتعاده عن الأضواء والمؤتمرات الصحافيّة إلى حدّ أنّه لم يستلم شخصيا أيا من جوائزه مثل جائزة البوكر التي حصل عليها ولم يعرها اهتماما.
أغرب الأسرار
الإعداد للعمل وتشكّله لا يختلفان كثيرا عن حالة التباين التي يعيشها الكُتّاب في حياتهم، فثمة مَن يُعدُّ أرشيفا للعمل، وهناك من يبدأ من أحد الفصول ثمّ يتحوّل إلى فصل أبعد في الترتيب ليعود من جديد للفصل السابق، فالتنقل ليس مجرد قفز على الأحداث وإنما هو اشتغال ومطاردة لإحدى شخصيات العمل، فيتماهى معها، متنقلا مع هواجسها وتناقضاتها.
وهناك مَن يرى أن عملية تشكيل العمل الأدبي ليست واحدة وإن كانت الفكرة العامة تأتي في الغالب ثمّ تتبعها الشخصيات كما هو حال الأفريقي شينو أتشيبي. وهناك مَن يَخضع لمحفزات تثير لذة الكتابة عنده، فتوني موريسون انطلقت في إحدى رواياتها مِن سؤال أرّقها مفاده “لِمَ أجد الناس -النساء تحديدا- غارقين في التعاسة في مقتبل العمر؟”.
وبالمثل الروائي ساراماغو الذي ينطلق دوما من سؤال على نحو ما فعل في روايته “العمى”. ومن أغرب الأسرار التي لازمت الكتاب، وهنا الأمر يقتصر على الكاتبات، أنهن غيرن أسماءهن، فهناك مَن تنكر لاسم الذكور كما في حالة إليف شفق التي ضمّتْ اسم أمها إلى اسمها ليكون لقبها، وهناك مَن تنكّرت لاسمها وتخفّت تحت اسم رجل، فالكاتبة التركيّة نهال بينوبله تخفّت وراء اسم رجل فنسنت بوينغ، بعدما أصدرت روايتها “صبايا صغيرات” عام 1950، وحقّقت رواجا كبيرا. واستعارت الكاتبة ماري آن إيفانس اسما ذكوريا هو جورج إليوت، بل إنها في واحدة من الغرائب تنكرت لكتابات النساء ووصفتها بـ”روايات سخيفة بأقلام روائيات”، وهو عنوان المقالة التي نشرتها عام 1856.
وهناك نوع ثالث من الكاتبات اختار أسماء مشتركة تصلح للرّجال والنساء على نحو ما فعل الأخوات برونتي، فقد أعدن صياغة أسمائهن فصاغت شارلوت اسمها كورير بيل، وآن صارت أكتون بيل، أما إيميلي فصارت إيليس بيل. وتنضم لهن الكاتبة جورج ساند وإن كان هناك من قال إنها أرادت أن تتخلّى عن اسمها الطويل (أمانتين أورو لوسيل دوبن برونس دوديفانت). لكن الأغرب ليس في الاسم وإنما في أفعالها التالية، حيث أخذت ترتدي ملابس رجالية وتتشبه في تصرفاتها بالرجال سواء في المشي أو تدخين الغليون وغيرهما من الأفعال. وهو ما جعل تورغينيف يصفها بأنها “امرأة طيبة القلب،
ورجل شجاع”، أما الكاتبة كارسون مكالرز صاحبة رواية “القلب قناص وحيد”، فهي على أرض ضبابية وكانت لا تختلط بأقرانها وتوصم بـ”الجلافة” وتخلّت عن موضة النساء في الثلاثينات من القرن الماضي من الأحذية العالية والتنانير الضيقة، بل وكانت تتجوّل بأحذية تنس وجوارب عادية، متشبهة بالرجال.
______
*العرب