عدتُ للبيت في المساء ومعي طفلنا الوحيد سَعْد، ذو السنوات الأربع. كنتُ قد انتظرتُه طويلا أمام (الروض) كما أفعل كل يوم، بعد مغادرتي للمكتب.
لكن زوجتي امتقعت حين رأته وبدأتْ تنتف شعرها وتصرخ بصوت حاد، يسمعه الجيران:
– يا مجنون! من أين جئتَ بهذا الولد؟ هو ليس ابننا سَعْد!
ثم حدجَتْني بنظرة يختلط فيها الغضب بالرعب وشرعتْ تردد :” يا للمصيبة ! يا للمصيبة ! جئتَني بولد غريب، وتركتَ ابني بين أيدي الغرباء ! يا للمصيبة !”
مباشرة بعد ذلك أطلقت صرخة طويلة حادة ثم أغمي عليها.
جئت بماء بارد وشرعت أصبه ُ على وجهها. كان الطفل ينظر إليها ويصرخ. حاولتُ أن أطمئنه. داعبتُ شعره قليلا، ثم شرعتُ أقرص خده بلطف. سألتُه:
– ما اسمك أيها الصغير؟
قال بتلقائية الأطفال :
– اسمي سَعْد !
– وأنا ؟ من أكون ؟
أجاب بضيق :
– أنتَ بابا …
– وهذه المرأة؟ من هي؟
أجاب وهو ينتحب:
– هذه ماما …
ثم انفلتَ مني ومضى نحوها وألقى بجسده الصغير فوق جسدها، وهو يبكي ويناديها:
– ماما ! ماما ! أفيقي !
عندما أفاقت شرعَتْ تنظر حولها باستغراب.
فركتْ عينيها بقوة. وما إن وقع بصرها على ابننا سعد حتى عادت تصرخ وتولول من جديد، وتنعتني بأنني مختل ومجنون. قلت لها متوسلا:
– اهدئي يا امرأة ! أنت تعرفين أن الغضب مضر بصحتك. انظري جيدا إلى سعد. لماذا تقولين إنه ليس هو؟
نظرتْ إليه ونظرَ إليها، ثم بدأت تولول من جديد وتطلب مني أن أعيد الصغير لذويه وأن أجيئها بابننا سعد! ولما هدأتْ قليلا، اقتربَتْ من الطفل وسألتْه:
– ما اسمك أيها الصغير؟
أجابها بهدوء تام:
– اسمي رضا.
– وأنا… من أنا ؟
نظر إليها متفحصا وأجاب:
– لا أعرفك !
أشارت إليّ وقالت:
– وهذا الرجل، تعرفه؟
أجابها دون أدنى تردد:
– لا…لا أعرفه !
إثر ذلك شرع يصرخ مرعوبا ويردد:” أريد ماما …أريد بابا.”
قالت لي زوجتي وقد علَتْها صفرة الموت:
– خذ الطفل إلى الروض. ستجد والديه ينتظرانه هناك ، وقد تجد طفلنا نحن في انتظارك ! امض حالاً ولا تضيع المزيد من الوقت !
أمسكتُ الطفلَ من يده وخرجنا في الحين. توجهنا إلى محطة الترام. كان الصغير قد استعاد هدوءه بكيفية عجيبة. أجلسْتُهُ فوق ركبتيّ وقرصت خده بلطف، وسألته :
– ما اسمك يا ولدي ؟
أجابني وهو يبتسم :
– اسمي سعد!
قلت له :
– وأنا، من أكون؟
قال:
– بابا …
قلت له :
– والمرأة التي كانت معنا في البيت؟
أجاب :
– هي ماما …هي ماما …
سألته :
– ما هي الحكاية التي حكيتُها لك البارحة قبل أن تنام ؟ هل تتذكرها؟
بقي ينظر من نافذة الترام بعض الوقت، ثم التفت إلي وأجابني قائلا:
– حكيتَ لي قصة الحمار الأبيض الذي يحب عصير الليمون!
قلت له:
– أنا لم أخبرك أنه أبيض، فكيف عرفتَ ذلك؟
قال و هو ينظر من نافذة الترام إلى السيارات العابرة :
– صورته معلقة على الجدار في شقتنا.
– في شقتنا نحن؟
– لا…في شقة بابا و ماما …
– مَنْ باباك و ماماك ؟
– هما بابا وماما …
قلت له:
– وأنا من أكون؟
أجاب بلامبالاة:
– لا أعرفك.
تصنعت الهدوء وسألته:
– وأنت ما اسمك؟
اتكأ على ركبتي. كان واضحا أنه يغالب النوم. أجابني ببساطة عجيبة:
– قلت لك مرارا إن اسمي رضا!
نزلنا من الترام في المحطة قبل الأخيرة. توجهنا مباشرة إلى (الروض). وجدنا المديرة واقفة في الباب. كان واضحا أنها تنتظرنا، لكنها تجاهلتني تماما. توجهتْ للطفل قائلة:
– تعال يا صغيري ! بابا وماما ينتظرانك في مكتبي!
قلت لها :
– من فضلك سيدتي، انظري إليه جيدا ! إنه ابني سَعْد.صحيح أنه يبدو أحيانا كأنه ليس هو، لكنه هو. صدقيني !
تطلعتْ إلي بازدراء ثم أخذَت ابني سعد من يده وصفقَت الباب في وجهي بعنف شديد.
____
*أديب من المغرب