مُتوسْطِّيّة بين حُمْرةِ الّلهَبِ وزَبَدِ البَحْرِ

خاص- ثقافات

محيي الدين كانون *

وُلِدَتْ منْ خيطِ الفجْر الأبيض في إحْدى صباحاتِ الإشراقِ . قالوا : لا بلْ وُلدتْ من اللّهب الأحْمرَ مُطهِرِ الألْوان . بعْضُهم قالَ : إنَّما أَنسلت من أصْفرَ الطينِ المُشبّعِ بشُعاع الشّمسِ ، والبعضُ الآخر قالَ : لا ، إنَّما هِيَ منْ نارِ التكوينِ وكثبانِ الرَّملِ ونسيمِ البِحارِ العاليةِ . . . تَعْبوا جَميعاً منْ مسألةِ الترجيحِ ، فإنْ كانتْ وردةً فمكانُها غُصْنِ ريّان ، يتمايلُ فوْقَ ضَفةٍ نهْرِ علَى  مشْهدٍ  من قُرْصِ أحْمرَ يذوبُ رويداَ رويداً عنْدَ المَغِيبِ ، وإِنْ كانتْ زَهْرةً مُشعشعةً فمكانها في حقلِ الربيع المُنْتشي ، وقيلَ أنَّها جميلةٌ  فوقَ الجمال المعتادِ بدرجاتٍ ، جميلةُ بقوامٍ ممشوقٍ لَدْن كعُودِ خيْزُران حسّاس لأدنى نِسْمة ، يقفُ بكاملِ طراوتهِ على جدْولٍ ماءِ يترقرقُ بنشيدِ الأمْلِ في القلوب ِ.

كانتْ القلوبُ المختلفةُ  تُسرّح عصافيرُها المُلوّنِة من  كل اتجاه  لتتحذَ من بساتينِها مراحاً ، لمْ أكُن أُدركُ منْذ البدايةِ أنّ هاتين العينين النجلاوين تُقطْران عسلاً صافياً من كنُوزِ التعبيرِ ، ثُمَّ أدركتُ فيما بعْدَ عنْدَ لحظةِ الغُروبِ ، أنّ هذا الكيَان الطري العذبِ يشرقُ بأنْوارِ الحِسّ المُتجلّي رهافةً بالذكاءِ وأَمواج ِالبصيرةِ .

السابلةُ  مِن الغشْم مِن حوْلِها ُ يُحْكِمون الحَلَقة حوْل جِيدها ، لكنُّهم يخْتابون مرارةً منْ سِرّها الضامرِ في مَكين الأَيْام ، وعنْدما تَحْكِم الصدفة ُالمعطرةُ بالغِفْلة أو يحْكم القصْدُ النابهِ في حرْز خَبيء نحوَ رِمْية اللقاءِ مع صاحبةِ هذا الوجه الجميلِ ، يتبخْر كلُّ شيءٍ  كأنَّ لمْ يَكُن شيئاً على الإِطلاق ، كأنَّهُ مِنْ نفْت سِحْر أسودَ أو أضغاثُ ليالٍ منْ أحْلامٍ مغدورةٍ ، يَخَبُّ الغافلُ والنابهُ بعْدَ اللقاءِ الأَوْل إلى الوراءِ منْ حيثُ جاءَ ، ويسُوح في اليومي حيثُ لا مطمعَ في لقاءِ آخر ، فقد آثرَ السلامةَ والابتعادَ  ، وانشغلَ بهما عن بؤرةِ هذا الضوءِ الساطعِ الذي يُعَرّي الأشياءَ مِنْ ظُلْمتها ، ويلْجَم بنورِه الذاتي  الهوى العربيد المُتعجَلِ ، هكذا كانَ عُشّاقها القُدامى يتساقطون كل يومٍ ،  واحداً تلوَ الآخر كالذُّبابِ حول آنية العسل ، ويهْرولون الجدد ومنْ فِي حُكْمهم كالأمواجِ  المتسارعةِ  وبكلّ ما لديهم نحوَ إضاءَةِ هذا الوجْه الجميلِ ، وهذا الكيان الساحرِ ، فيلمُّ الحيرانُ منهم أثقالَه بلحافِ السُّرْعةِ ، يخففُ منْ المشاق الطويلِ ليجدَ الرّاحة المُتْرفة بعْدَ عناءِ السفرِ ، ويدركُ بعضُهم نارَ الفجيعةِ التي تحْرق الأقنعةَ الشمْعيَّةَ بسهامِ ذكائها المتوقدِ ، فيتهْرأُ  المَخْفي من العَوارتِ لديهِ ؛ لكنَّ جميعَهم خابوا في مسْعاهم ، واحْترقوا بعْد أنْ جذبتْهم الشُّعلةُ كمَا يجْذِبُ نورُ المِصْباح الفراشَ المتناثرِ حوْلهِ .

قِيلَ بعْدَها : أنَّها جاءتْ منْ السّحْر وزبدِ البحْر  ، ألقَاها اليَمُّ على شاطئِ ليبيا ، من بقايا رومانيّة قديمة مخلوطة ببقايا إغريقيّة ، سكنتْ على ميناءِ طرابلس  الغرْب ، وقيل أيضاً : إنَّها حُوريةَ من البحْر وافدةٌ تشكْلت من لمعانِ الضوءِ المُنْعكسِ على رغْوةِ الموْج الأبيضَ بنسبة إلهيّة أو عنْد اضْطرابِ البحْر الهائج على ذرات رمل الشواطئ الدافئة بنسبة محسوبة عداً بينَ المدِّ والجزَرِ ومضروبة  في أرقام السّحر االزّيجي .

وقيلَ الكثيرُ والكثيرُ ، ولكن لم أدركْ ، لا في المرّةِ الأولى ، ولا في المرّةِ الثانية ، ما أدركتْه لحظة الرَّحيل : إنَّها من خيْط الفجْرِ الأبيضَ في إحْدى صباَحاتِ الإشْراق ، كانتْ حياتُها مترعةً بالبراءةِ ، يسيرةً هينةً ، يظللها الحبُّ المسكوبُ من رُمُوشِ الليالي ، أُمُّها إيطالية صافية جاءتْ من عُروق متوسْطية بين البَحْر والشَمس ، حطَّها الموْجُ الرابعِ على الشاطئ الرابعِ ، نضجتْ وأرّغت بين الموجتين ثم استنكرت الحريقةَ التي أشْعلها السيّدُ الطاووس ( الدوتشي موسليني)1   في قتْل الأبرياء ، وكانتْ من المنفيين ، عصف بكيانها واقع الجرم الذي تستر حنيناً فاجعاً إلى مجْد تاريخ روما القديم ، والعودة إلى أرض الميعادِ ، بكتْ دون دموع ، لكنّها كانت شاهدة على نصْل الجريمة ، يلْمع تحتَ وهْجِ الشّمسِ ، وما كان لها  غيرُ الهجرةِ  ، لأنّ هناك ما هو أنكأ .

من رمادِ الفجيعةِ القادمة تساءلتْ : كيْف يمكنُ لبشريّ أنْ يذْبحَ شعباً كاملاً ، لمُجَرّدِ أن السيّد الطاووس يُحبُّ نفْخةً فوارةً تصْعدُ من بُلْعُومهِ ، تجْعلهُ يلفُّ حولَ نفْسِه مزهواً بريشاتِ المجْد الوطني التليدِ ، منْفوخُ الأوْداج ، يكرْكْر في الهواء : أيعيدُ ( نيرون )1  مجْده  بحرق روما من جديدٍ أمْ يبْصقُ على حِكْمة ( سنيكا )2  ؟!

كانتْ إذن بنتُ الصباحاتِ من أصول متوسطيّة من زَبَد البحر وخيوطِ الشمس الذهبيّة ، خالطها لهبُ القيظ القبلي تحتَ شُرْفةِ الحُرية ، وفي إحْدى صباحاتِ الإشْراق ، تدفقَ هذا الوجهِ المشعشعُ من معَين المحْرقةِ ، وحان قِطاف الزّهرة من الغُصن الميّاد في مواسم الخرابِ ، زادتْ بصيرتُها توهجاً ، واشتعلت بخميرةِ الأيّام يوم انطمسَ القيظُ القبْلي ، و قد غادرَ والدُها هذه الدُّنيا ، وتركَ رجاءا ً إعالة أُسْرةٍ والرفقَ بداءِ عِضالٍ ينْهشُ قلبَ الأمِ الرَءوُم .

عرفتْ أنّ التبسُّطَ في الحياةِ الاجتماعيةِ طريقٌ يمهْدُه نورُ إشراقِها  ، وتقِرُّه هذه المسؤولية الجديدة الثقيلة على طراوةِ عُود الخيْزُران ، تفْرضهُ المجاملةُ الاجتماعيةِ والذوقُ العام قبْلَ أنْ يكونَ ضرورياً ، وعلى الرُّغْم مِنْ سوء الفهمِ الذي يحْدثُ كثيرا ، فإنَّ جَمالَها الباهرِ يزكّى قرارها الذَّكي الذي يحسْم مِثل هذه المواقفِ بجملةٍ محددةٍ مقفلة . وعرفت الكثيرَ في السنوات ِالأَخيرةِ  ، ما لم تعرفْ مثْله في السنواتِ الماضية ، دعمتْ ما تعْرِفة من سَنْدِ التجربة بالكثيرِ مما قرأتْهُ ، وصهرتْهُ بأنْوار الحَدس والدَّرْس ، فكانتْ تدركُ ما تريد بالتحديد كفلْق الصُّبْح ، وتسْلكُ كأَنَّ الرؤيا الواضحة تقودُها في حين يتخَبطُ الفراشُ منْ حولِها ببهاءِ نورِها ، إمَّا أنْ يفرَّ من الّلهِبِ أو يحْترقّ . هامَ حولَها الكثيرُ ، تّعِبَ الطالبُ والمطلوبُ ، وتعبتْ هي كثيراً من النُسَخ ِالكربونيّة ، ومن المُساومةِ اليوميةِ في سوق الغرائزِ ، لقد استوى الجميعُ : إذ كيْف يكون للسيّد الطاووس هذه القدرة المُخْتالة في جعْل مجموعةٍ من الأكاذيبِ بارجة عسكرية  تمْخرُ صوبَ الشاطئ الرابعِ ، وكُلَّما صعدتْ من بُلْعُومه زفْرةُ فوّارة ٍ ،  كُلَّما  أخذَ يكَرْكَرُ وينْفخُ  في الهواءِ مجدَ روما القديم مزهواً بريشاتهِ متبختراً حول نفسهِ ، متعجبا بألوان جناحية المفروشة في الهواء ومستعرضا ذنبه في انبساط  كمِنَشّةٍ  .  تأملتْ وتمعّنت صاحبةُ الوجْهِ المُشْرِقِ  في صورة ( بنيتو موسليني )3 …. في وجهه المنتفخ ، وفي بؤبؤ عينيه المختنقتين ، وفي بزّته الديكيّة ، وفى  كرْشه  البارز  كأنه حامل  في  شهره  التاسع ، ضَحِكت ثم خرجتْ إلى البحْر وتركتْ الشمْسُ ورائها  وذِكرى أوجاعِ حادّة تُمزّقُ  قلْب الأُمّ ، كثيرون قالوا : إِنّها رجعتْ إلى حيثُ كانتْ  من قبْل  ، وأنّ مرضَ أمّها ليس إلاّ حيلةً  ورمزاً من السّحر الأسْودَ ،  وقالَ البعضُ الآخر : إِنّها جاءتْ من الّلهِب الأحْمرَ وزَبَد البَحْر ، ولا بُدَّ  مِنْ أن تعود الأشياء إلى دورتِها الطبيعيةِ ، وقال آخرون : أنهم شاهدوها تسْتلمُ مظروفاً  ذهبياً  به خطوط عجيبة ، ثم لمْ يعلموا ماذا حدث لها بعد ذلك .

مرّتْ أعوامُ على اختفاءِ وجْه الصباحِ ، كأنَّ لم يكُن شيئاً ، كأنَّ لمْ يكُن شيئاً على الإطْلاق ،  كأنّهُ  من نفَث سحْر أسْودَ لا  ضميرَ   له ،  أو أضغاثِ احلامٍ  من ليالٍ مغدورةٍ .

*  كاتب وأديب من ليبيا .
(1) بنبوتو موسليني ( 1883 – 1945 ) الحاكم العسكري والمؤسس  للحزب الفاشستي ( الاتحادي ) في إيطاليا ، أمر باحتلال ليبيا في مطلع القرن العشرين ، وعدها الشاطئ الرابع  لإيطاليا .

(2)  فيلسوف روماني ( 2 –  66 م ) يعتمد المدرسة الرواقية في تفكيره وسلوكه . كان مؤدبا ( نيرون ) الحاكم الطاغية ، انتحر وقطع عرق الحياة بأ مر من ( نيرون ) ، ولم يلبث الأخير ان قتل زوجه وأمه ثم احرق ( روما ) وانتحر .

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *