لاعب ماهر يتقن عجن اللغة وتطويعها ومن الندرة القادرة على نحت المفردة والصورة حتى أنه قادر على منحك الإحساس البكر الذي لم تختبره عند غيره ممن يكتبون للاستهلاك وتملأ أسمائهم اليافطات العريضة المزينة باللعب والتسويق الإعلامي القائم على إعماء القارئ بالدعاية والترويج البعيدان عن النقد الحقيقي وعن احترام عقل القارئ الحقيقي.
حبيب السائح لا يكتب قدر ما يعيد صياغة الوطن والإنسان خلال رواياته، يحاول أن يرتقي بمفردته وبناءه السردي حداً يدفع قارئه إلى مغادرة دائرة الانفعال التي تشحنه بها الثقافة الاستهلاكية وتغربه عن حقيقة دوره في التغيير، ولهذا ستراه دائما خارج المقاييس والتقنين.
تلك المحبة: تفوق السرد
تلك المحبة رواية قادرة على رسم المشهدية بإبداع متفرد حتى كأنك تشم رائحة اللغة وتتحسسها، فلو وُضعت أمامي ثلاثةُ خيارات: أن أعايش الأحداث بنفسي أو تُعرض عليَّ في مسلسل تلفزيوني، أو أقرأها في هذه الرواية، لفضّلت الخيار الثالث لما فيه من تفاصيل وتحاليل وسبر للأغوارٍ لا أقف عليها في الخيارين الأول والثاني.
ففيها من الوصف والتصوير في جماله وإبداعه وشموليته وروعته ودقته ما تعجز عنه أحدث الكاميرات وأدقّها..
رواية “الموت في وهران”/ الحبيب السايح
الرواية عمل إبداعي جذّاب في موضوعها وفي أسلوبها.. وفي لغتها المتميّزة، وهي في فصولها الأخيرة أكثر جاذبية. ومن طرق الجذب والتشويق في الأسلوب التقديم للحوار بصورة ترسم لك تعابير وانفعالات المتكلم كانّه أمامك، من مثل: أجهشت: «..»، متظرّفًا نحوي: «..»، ولكني رميت لها بلا قناعة: «..»، إذ تبسم، متقدما: «..»، ردّ، مغتبطا: «..»، تأست لي بختة الشرْگِي: «..»، فرد، بإيماءة ابتذال مرافقة: «..»… وغيرها الكثير، مما خرج عن المألوف الممل، وهو الفعل: قال، فقالت.. الخ.
واللافت في الرواية عنوانها غير المتجانس في تركيبه فـ”وهران” الجميلة تنبض بالحياة.. ويأتي العنوان ليقول: “الموت” في …، وهذا يشدّ القارئ ليقف على هذا اللغز وهذه الغرائبية!!
ومن التقنيات المشوقة جدا.. أنّ الرواية بدأت بأمور غامضة.. وشكوك وأوهام… ظلَّ البطل يبحث عنها حتّى بدأت الحقائق تتكشّف تباعاً وتظهر..
اللغة في هذه الرواية تتمتع بخصوصيتها.. تتراوح بين الذروة في استخدام الفصيح حيث لا يليق إلا استخدامه.. وبين اللغة الدارجة حيث تكون أبلغ وأدلّ.. ناهيك عن بعض المفردات المنقطعة عن التركيب.. والعميقة الدلالة على المعنى الذي وُظّفت له!!
رواية تماسخت
الكثير مما قيل سابقاً في شأن الرواية التي قبلها “الموت في وهران”، ينطبق إلى حد كبير على رواية تماسخت لكنه لا يمنحها ما تستحق ولا يسعنا الكلام فيها، فقد فاقت كلَّ قول.. تعدّدت فيها الشخوص وتعدّدت الأحداث، وتعدّدت الأماكن.. تسجّل لحقبة دموية وحشية اضطرّت المثقف لأن يهجر جزائره وهو ابنُها.. ومن لم يعايش تلك المرحلة وما قبلها وما بعدها في وقتها فليعايشْها من خلال هذا العمل الفنيّ الرائع!!
السيرة الذاتية
الحبيب السائح كاتب جزائري من مواليد منطقة سيدي عيسى ولاية معسكر. نشأ في مدينة سعيدة، تخرّج من جامعة وهران (ليسانس آداب ودراسات ما بعد التخرّج). اشتغل بالتّدريس وساهم في الصحافة الجزائرية والعربية. غادر الجزائر سنة 1994 متّجها نحو تونس حيث أقام بها نصف سنة قبل أن يشدّ الرّحال نحو المغرب الأقصى ثم عاد بعد ذلك إلى الجزائر ليتفرّغ منذ سنوات للإبداع الأدبي قصة ورواية.
§ صدر لـه :
– القرار : مجموعة قصصية، سوريا 1979 / الجزائر 1985.
– الصعود نحو الأسفل : مجموعة قصصية، الجزائر، ط 1، 1981، ط 2، 1986.
– زمن النمرود : رواية، الجزائر 1985.
– ذاك الحنين : رواية، الجزائر 1997.
– البهية تتزيّن لجلادها : مجموعة قصصية، سوريا 2000.
– تماسخت : رواية، دار القصبة، الجزائر 2002.
– تلك المحبّة، الجزائر 2003.
–