خاص- ثقافات
*د. يسري عبد الغني عبد الله
خلفت لنا حضارة الرومان، الكثير من الإنشاءات المعمارية العظيمة، التي تشهد على قوة روما وعظمتها، فكانت جدران المباني تتكون من كتل ضخمة من الحجارة، والقنوات تمتد على أطوال بعيدة، فضلاً عن المعابد الفخمة، والمقابر، والحمامات، وساحات الألعاب، والمسارح، وأقواس النصر، والكباري، والطرق.
ومن بين هذه المنشآت ما يصعب علينا الآن تحديد جميع الأغراض التي كانت تستخدم فيها، إذ أننا لا نستطيع أن نتخيل الطريقة التي بنيت بها، ولا نوع الحياة التي كانت تجري بين جدرانها، ذلك لأن طراز تلك المباني طراز لم يعد معروفًا في وقتنا الحاضر، وهذا النوع من المنشآت التي نشير إليها هو الحمامات الرومانية، والتي كانت تشغل مساحات شاسعة حيث قد يصل الحمام الواحد إلى مساحة 30 فدانًا، وهناك عدد من التساؤلات في هذا الصدد منها : لماذا كان الرومان يقيمون مبان كاملة لا لشيء إلا لتكون حمامات ؟ كيف كانت تبنى تلك الحمامات، وكيف كان يجري تشغيل تجهيزاتها العديدة ؟، وكيف كان الرومان يقضون أوقاتهم فيها ؟، إننا سنعتمد في إجاباتنا على هذه التساؤلات جميعًا على ما قرأناه وطالعناه في مراجع تاريخ العمارة الرومانية، تلك المراجع التي اعتمدت على ما أمكن العثور عليه بداخل هذه الحمامات من آثار، وعلى الصور والمخطوطات الخاصة بتلك الحقبة من الزمن.
كيف كان المواطن الروماني يقضي يومه ؟ :
كان المواطن الروماني لا يخصص إلا القليل من وقته لأغراض الزينة الشخصية مهما كان ثراؤه، ومهما كانت درجة أناقته، كان يأوي إلى فراشه بكامل ملابسه تقريبًا، وبمجرد أن ينهض من الفراش فإنه يكون مستعدًا للخروج.
وفي كافة أرجاء مدينة بومبي، لم يعثر على حوض استحمام إلا في منزل واحد، وإذ كان الصابون لم يكن قد عرف بعد، فإن أي فرد يرغب في الاغتسال، كان يكتفي بأن يغمر يديه ووجهه في الماء البارد.
ومع ذلك، فلا يجب أن تظن أن الرومان لم يكونوا يهتمون كثيرًا بشئون النظافة الشخصية، إذ الواقع هو العكس، لأنهم كانوا يخصصون وقتًا آخر من اليوم للاستحمام، وللرياضة البدنية، والعناية بالجسم، وكانوا يفضلون تخصيص الساعات الوسطى من فترة بعد الظهر لهذه الأغراض، ولذا فإن اهتمامهم بها كان يفوق اهتمامنا..
لم تكن توجد في ذلك العصر وسائل تكفل الحصول على الإضاءة الصناعية، ولذلك فقد كانوا يستغلون ساعات النهار لأقصى حد ممكن، فكان الجميع، غنيهم وفقيرهم، سيدًا كان أو عبدًا، يستيقظون مع الفجر، ويخرجون فورًا إلى أعمالهم، وكان ذلك يستتبع أن يناموا مبكرين في المساء، ويتضح من ذلك أن جميع الأشغال في أيام الرومان كانت تنجز في أوقات مبكرة عنها في أيامنا الحاضرة، كان النصف الأول من النهار طويلاً، ولذلك كان على الجميع أن ينجزوا خلاله كل ما كان عليهم إنجازه من أعمال، في حين كانت فترة بعد الظهر تماثل فترة المساء التي تعودنا عليها اليوم، فكانوا يقضونها في الراحة واللهو، وذلك هو السبب في أن المسرحيات في المسارح الرومانية، والألعاب في الساحات المخصصة لها كانت تبدأ بعد الظهر.
ونقرأ أيضًا أن الرومان في العهد الإمبراطوري كانوا يقضون تلك الفترة عادة في الحمامات، كما نمضيها نحن اليوم في الأندية أو في دور السينما أو في المقاهي، وكانوا بعد أن يقضوا فترة الصباح في الإشراف على العبيد الذين يؤدون لهم أعمالهم، أو يراجعون حساباتهم مع المكلفين بها منهم، أو يؤدون مهام مناصبهم الرسمية، أو يقومون بالأعمال التجارية في الأسواق، أو يناقشون المسائل السياسية في الساحات حيث يتواجد الناس، كانوا يذهبون إلى الحمامات في فترة ما بعد الظهر، وهناك، علاوة على الاستحمام والقيام بالتمرينات الرياضية، كانوا يقضون الساعات الطويلة في تبادل الأحاديث والمناقشات السياسية، والفلسفية، والأدبية، والفنية، و كذلك في تبادل النكات والطرائف والحكايات الفكهة.
والرومان بمواظبتهم على الذهاب إلى الحمامات، حتى في أشد أوقات حضارتهم خلاعة وفسادًا، كانوا يحافظون على المثل القديم القائل بأن ” العقل السليم في الجسم السليم “.
ضخامة منشآت الحمامات :
كانت مباني الحمامات الرومانية من الضخامة والسعة، بحيث أنها تستطيع أن تستوعب الآلاف من المترددين عليها في وقت واحد، وكانت تشتمل على المطاعم، وحوانيت الحلاقة والتزيين، وبيع العطور، والعقاقير.
وفضلاً عن ذلك، فقد كانت بها حدائق غناء تنتشر في أرجائها النافورات وكل أنواع الزهور، وتتخللها ممرات مسقوفة للمشي، هذا علاوة على المكتبات المليئة بالكتب، وقاعات الاجتماعات.
وقد عثر في روما تحت الحمامات التي أنشأها كاراكالا على شبكة كاملة من الممرات السفلى، وهي من الاتساع بحيث يمكن لعربتين كبيرتين أن يسيرا فيها جنبًا إلى جنب، وبها ميادين واسعة تستطيع العربات أن تتحرك وتستدير فيها، وفي أرضية الحمامات كانت توجد فتحات أو طاقات تستخدم في تحميل قوافل العربات التي تقف تحتها في الممرات السفلى بالبياضات المتسخة، لنقلها إلى المغسلة، وكذلك تفريغ حمولات تلك العربات من البياضات النظيفة المخصصة للحمامات، وبهذه الطريقة كانت الحمامات تمون بكل ما يلزمها من مهمات الغسل والنظافة، وكذلك بالأخشاب اللازمة لتسخين المياه، وبذلك لا يضطرون لنقل كل هذه المهمات خلال القاعات العلوية الفخمة المكتظة برواد الحمامات، ويضرب المثل بحمامات كاراكالا في فخامة زخرفتها، وما تحتويه من رخام وجص ونافورات وتماثيل تعد في عداد التحف الفنية النادرة.
وإذا أردنا أن نعرف وصفًا تخطيطيًا للحمامات العامة في بلاد الرومان نأخذ مدينة بومبي كمثال، على أن نضع في الاعتبار أن حمامات مدينة بومبي ذات حجم متوسط إذا هي قورنت بحمامات روما، ولكنها كانت تشتمل على جميع الأقسام المعتادة في مثل تلك المنشآت، ولذا يمكن أن نعتمد على وصفها في هذه السطور :
1 ـ المدخل العام للحمامات، إلى الجزء الخاص بالرجال.
2 ـ الأبوديتريوم : وهو عبارة عن مجموعة حجرات مخصصة لخلع الملابس التي كانت توضع على أرفف مقسمة إلى خانات في مستوى الرأس، ولما كان من الصعب إغلاقها، فإنهم كانوا يتركون بالحجرة أحد العبيد لحراستها، كما يمكن اعتبارها على أنها حجرات للانتظار.
3 ـ السفيريستريوم : وهي صالة للألعاب والتمرينات الرياضية، حيث كان الرواد يتصارعون بعد أن يدهنوا أجسامهم بالزيت والشمع، أو يتبارزون بالسيوف الخشبية، أو يتسلون بلعب الكرة، مثل لعبة التريجون و الأراباستم (تشبه كرة اليد والكرة الطائرة في أيامنا).
4 ـ حجرات الانتظار للاعبين، وفي الحمامات الكبيرة، كان توجد حجرات صغيرة ساخنة يطلق عليها السودأتوريا، وهي مأخوذة من اللاتينية سودور بمعنى العرق، حيث كان يقصدها الرواد بعد الانتهاء من تمريناتهم الرياضية، لكي يفرزوا المزيد من العرق (حمامات السونا).
5 ـ الكاليداريوم : وهو الجزء الرئيسي في المبنى، عبارة عن حجرة كبيرة جيدة الإضاءة، يقصدها الزوار بعد فراغهم من صالة الألعاب الرياضية لدهان أجسامهم، والاغتسال، وتجفيف أبدانهم، ولقد كانوا يستخدمون زيوتًا خاصة ليدهنوا بها أجسامهم، ثم حكها بآلة خاصة كانت تسمى (ستريجلس)، وكان العبيد أو غيرهم من الأجراء هم الذين يقومون عادة بتأدية هذه المهمة (يشبه عملية التكييس أو التلييف في حماماتنا الشعبية)، وكانت المياه الساخنة جدًا تنطلق من نافورة خاصة، حيث كان الزوار يغتسلون منها بعناية، وفي الحمامات الرومانية الكبيرة، كان الكاليداريوم يشتمل كذلك على حوض للسباحة يملأ بمياه شديدة السخونة.
6 ـ التبيداريوم : وهو حجرة درجة حرارتها أقل ارتفاعًا، وهي مأخوذة من اللاتينية (تيبديوس) بمعنى دافئ، وكان الزوار يقضون بها فترة من الوقت في درجة حرارة أقل من سابقتها، استعدادًا للانتقال إلى الحمام البارد.
7 ـ الفريجيداريوم : بعد أن يكون الجسم قد تعرض لدرجات الحرارة العالية فتفتحت مسامه، ينتقل المستحمون إلى الفريجيداريوم ليغمروا أجسامهم في مياه حوض السباحة الباردة، وهذا التغيير في درجة الحرارة التي يتعرض لها الجسم، من الساخن إلى البارد، له تأثير منعش على الدورة الدموية، وكان هو العامل الرئيسي في الفوائد الصحية التي يحصل عليها المستحمون.
8 ـ حمامات السباحة 9 ـ خزانات صغيرة إضافية مستقلة
11 ـ مدخل الجزء المخصص للسيدات، وهذا الجزء يحتوي على : الإبوديتريوم، والتبيداريوم، والكاليدرايوم الخاصة بجناح السيدات 12 ـ حجرات الانتظار.
13 ـ الهيبوكوسيس : وهي حجرة كان يوجد بها عدد من العبيد يقومون بتغذية النيران بالوقود، لتسخين المياه والحجرات، وكانت تمتد تحت أرضيات الحجرات المختلفة شبكة من المداخن يبلغ عمقها قرابة المترين، توقد فيها كتل الوقود، وبذلك يمكن تسخين الحجرات التي فوقها من خلال أرضياتها، وبهذه الطريقة كانت النيران تمر أسفل الأحواض والخزانات التي كانت تحتوي على المياه الساخنة، وكان الهواء الساخن المتصاعد من تلك المداخن يمر خلال شبكة من الأنابيب المصنوعة من الطين، تمتد خلف طبقة البياض، ثم يخرج من خلال السقف، بعد أن يكون قد دفأ الجدران.
______________
*باحث وخبير في التراث الثقافي
Yusri_52@yahoo.com