تقلّبت في فراشها مرّات وهي تخشى أن توقظ حفيدها النّائم بجانبها يرتضع لبأ حنوّ ما لضرع يجود به نضوب..
تأمّلت وجهه الملائكيّ وهي تتمتم :” كم أعشقك أصغيري و أعشق بيت والدي ذا..المهترىء كذاكرتي التي لا تني سكاكر دسستها في ثناياها ذات ارتشافات زمن تذوب..”
منذ يوم حلّت بهذا المنزل صحبة حفيدها كما اعتادت كلّ بدايات صيف تنهل فيه دفقا من الذّكرى علّه يخمد نيران فقد ملتهبة مذ مساء قبروا فيه والدها ومعه انقبرت طفولة ظلّت في فيء حياته تأبى أن تكبر..وتلقم الصّغير منّ حكايات صباها عساها تنزع من درب عمره الآتي حساكة الألم وحنضل الوجل..
تعالى نباح الكلاب..
همست :” من يجوس في ذا اللّيل حول الدّار..؟أتراه لصّا مخاتلا أم حبيبا متسلّلا يخشى عين عاذل ترجمه بجمر بين..؟
تحاملت على نفسها وهي تمدّ يدها إلى العكّاز تروم تسند إليه هامة أنهكها العمر تجلّدا..أنارت فناء الحوش بلمسة واهنة من يدها المرتعشة لزرّ كهربائيَ ألفته وألفها وكلكل المكان كلّما حلَت بالدّار يزرع الأرق في ثنيّات ليلها ، فتفرّ من الفراش كلّما افتضّ بوّابات النّعاس وامتطى لذيذ الرّقاد بوّابات النّوى لتجالس النّجوم أو تسامر البدر إن عنّ له أن يتجلّى لها..
بين فراشها وباب المنزل امتدّ الدّرب كما تمتدّ سكّة الحديد من الجريد إلى تونس ، طويلا، مضنيا ، متلوّيا ، مهتزّة فيه الرّوح والجسد فلا هما يأنسان هدهدة ولا هي برقصهما تنعم..
وبعد لأي أطلّت من الباب..عجوز خطّ الزّمن على صفحة وجهها ما شاء من الأسطر المتعرّجة بها يرسم خارطة كنز عمرها الآفل ..قامة منتصبة تميل إلى الخلف قليلا كأنّما تتوجّس تهاويا فتفرّ إلى الوجهة المعاكسة..جسد غير ممتلىء لكنّه ليس كما عهده ذات زمن..
ظلّ يتأمّلها وهو يواري جسده خلف سنديانة غير بعيدة عن سور حديقتها الذي لم يفهم السّرّ الكامن في قلّة ارتفاعه وهو يردّد بصوت بلا صدى :” أتراهم أمنوا الدّهر وأهله فما تاقوا إلى علوّ حصن منيع..؟”
طفق يجول في صفحاتها المتناثرة أمامه طورا يبهمها دجى اللّيل فتتعصّى عليه حروفها وتارة يرقّ له المصباح الكهربائيّ وعليه يحنو فيغمرها بالنّور لتتكشّف له بعض جملها..أسندت قامتها إلى شقّ الباب المغلق وهي ترنو إلى السّماء بعينين كادت تغطّيهما تجاعيد زاحفة وذبول الجفون توقا إلى سبات..
همس :” عمّ تراها تسائل السّماء ..؟ أتراها تبحث عن مرابض البدر أم عساها تناشد الأنجم نزر ضياء..؟ أم علّ في الأمر سفر روح في أفق معراجه صرح بصر..؟
لملمت شظايا عزم كاد يعصف بها الوهن وسارت نحو كرسيّ وحيد يجالس طاولة صغيرة في ركن قريب من الباب ومن ألق المصباح..جذبت إليها الكرسيّ ثمّ بكلّ تؤدة الكون أجلست نفسها وسحبت نفسا طويلا كعطش يغترف ذات قيظ رشفة ماء بارد زلال..فهمس متلظّيا :” أيا نسيم هُبّ إليها منّي علّها تذكر عطري..”
مدّت يدها إلى جيب ثوب يلفّها محتضنا حانيا، وأخرجت مسبحة شرعت تتحسّسها مداعبة فطفقت حبّاتها تتناثر تدلّلا من بين الأنامل محدثة طقطقة خفيفة وهي تتعثّر ببعضها كقهقهات رضيع..
هبّت كلاب ثلاث وقد كفّت عن اَّنّباح.. و قعت عند قدميها خادما وفيَا ذلولا..فهمس من خلف السّنديانة :” أيا لهف قلبي..للكلاب في وصالها خير الحظوظ..”
ودّ لو يتحامل على نفسه ، يندفع ، يدفع خطاه ، يتمرّد على وهن شيخوخته ، يتخطّى السّور ..يطرد بعكّازه الكلاب ويجثو على ركبتيه بين يديها يلحس أغبرة دروب عمر ضربت فيه عمرا دون رفقته ، يمسح عنها
عوالق تلك الطَريق..، يسألها خبر حكاية آنسلّ من بنيتها آن آعتلال قدر..
كاد يهمّ بالمسير وقد تاهت عنه حكمة العمر غير أنّ صوت صبيّ يافع هاجم خطاه وهو ينادي :” جدّتي..أين أنت..؟”
تجمّد في مكانه وهو يرقب الصّبيّ يندفع نحوها وهي تفتح له بوّابات الحضن فيئا يجود عليه برطب باسقات الحنوّ..ودّ لو يسبقه ، لو يندسّ في تلك الخميلة التي طالما تاق إليها وما نعم منها بغير الحلم..
راقبها تحضن حفيدها ، تقبّله ، تمسح بكفّها رأسه وأصابعها تتخلّل شعره ، تهمس له فيشرق وجهه بشرا ويعرّش في جنانه الرّبيع..ويشرق هو حيث هو بوابلات الحنين..
ما عادت قواه تقدر على حمل جسده المضنى بتأوّهات الرّوح..تمسّك بغصن قريب حتّى لا يتهاوى فصدرت من المكان خشخشة أثارت الكلاب فهرعت إلى السّور نابحة تعلن أنّها الذّوّادة عن الحمى ففيه تنعم بالدّلال وتفوز دونه بالحظوظ..
اشرأبّت بعنقها تتقفّى خطى الصّوت ..ردّد الصّبيّ :” ماذا هناك ،جدّتي..؟ماذا ترين..؟” فلهج لسانها وهي تستوي واقفة :” لاشيء ، صغيري..إنّي لا أرى شيئا..وعهد الإبصار أفل نجمه في فيافي آنتظارات عقيمة ..” ثمّ جرّت خطاها إلى داخل المنزل كذبيح والصّبيّ خلفها يتشبّث بذيل ثوبها وعيناه تتفحّصان الأفق الموغل في الدّجى و فكره يتلجلج حيرة ما أدرك لقول الجدّة معنى..
بيمناها آستندت إلى النّصف المغلق من الباب وبيسراها أخذت تدفع الشقّ الآخر ليحضن خلّه وعيناها تضجّان بالسّؤال خلف السّؤال وهما تطيلان نظرا إلى سنديانة تسربلت بالدّكناء فباتت كمارد ينسلّ من خرافات تلك الطّفولة..
تلاقى البصران في كنف الدّجى وما آلتقيا..تعانقت المقل في غفلة من جسدين آمتدّ بينهما اللّيل كما عمريهما جدارا عازلا..ارتوت الأوردة والنّبض تشقّق جدبا..
وتوارت خلف الباب..
انتفض الوريد فيه ثائرا..غرق النّبض في العويل..جلجلت ضحكات النّفس شامتة..اختنق الفكر بالسّؤال.. ردّد :” لم ذي النّواحات يا هرم..؟ أما كنت في غضّ العمر شمس قطب ولهة بالأفول ، كنت شرخا في الحكاية حطّم أعمدتها متغنّيا بالرّحيل ، كنت خطوا في دروب الوصال للخطو خذولا..؟؟؟
افترش أديما قاسيا باردا كجليد وكلّ قوى الجسد قد تلاشت كزبد ذات نفخ ريح..ألقى برأسه إلى جذع السنديانة وهو يهمس بصوت متحشرج :” ألا ليت ذا اللّظى كان ذاك الحين متّقدا فما تاهت فيّ بوصلة الثنيّة…ألا ليت المنيّة وهي تذكر ني تهون وأنا أشهد أمام الله الواحد الأحد أنّ الرّوح ما كانت لغيرها في مضارب الصّبّ سبيّة..”