أصبحت صورته، وهم يقتادونه مكبل اليدين، وهو رغم القيد يرفعهما عاليا في وجه أعدائه؛ ليجسم معنى الصمود، أمرا مألوفا بالنسبة إليه.
وهو يتناول فطوره في غرفته بالمستشفى، ويشاهد التلفاز انتبه إلى أنه نهم على غير عادته، ووجد أن كسر نظام الحمية الصارم الذي يتبعه بحرص شديد، لم يثر فيه هاجس السمنة الذي كان يطبق على عقله الباطن؛ فيردعه كلما حاول الإفراط في الأكل، ورغم ذلك يشعر بالجوع، فكأن شخصا آخر هو الذي يأكل ، وليس هو ، الشيء الوحيد الذي يثير اهتمامه هو صورة هذا الأسير الذي يقتادونه مكبل اليدين، وهو رغم القيد يرفعهما عاليا؛ليجسم معنى الصمود. أمسك جهاز التحكم عن بعد، وكبس بسرعة رقما ما؛ محاولا تغيير القناة إلا أن جهاز التحكم لم يستجب . كرر المحاولة مرة أخرى بدون جدوى . ناجى نفسه مغضبا (ما خطب هذه الخردة اليوم؟) وحاول أن يقتنع بأن عطبا مفاجئا اعترى الشاشة . وبينما هو يتفرس وجه الأسير مكرها ؛وجد نفسه يقارن بين هيئته اليوم ، وبين هيئته بالأمس ؛فاكتشف أن شعر لمته قد شاب ، وأن جلد وجهه ترهل، وظهره تقوس. الشيء الوحيد الذي لم يتغير هو نظرته الحادة تلك ، كنظرة النسر. حاول أن يتذكر قصته. قضيته. أول مرة رأى صورته. غير أنه عبثا قد حاول. (لربما أصبت بـ(الزهايمر)هذا المرض الذي الذي يفترس من هم في سني. صحيح. هو ذاك . لكنني أتذكر اسمي ، وهو شعيب ، وتاريخ اليوم . نحن في العشرين من فبراير ألفان وأحد عشر ) قال في نفسه. أحس بأنه محشو بالتراب . يأكل التراب . يشم التراب. يلمس التراب . يتذوق التراب. لا يبصر إلا التراب. وعلى حين غرة لمعت في ذهنه ومضة من ذكرى. إن هذا الأسير الذي لا يتذكر اسمه كان معارضا معروفا ينتصر للفقراء والكادحين يناضل من أجل العدالة الاجتماعية، والمساواة ، والتوزيع العادل للثروة، وأشياء أخرى لا يفهم أغلبها. ولكنه فجأة بات يفهم أن هذا الأسير يستحق كل تقدير واحترام . ولم يجد سببا مقنعا يفسر به نفوره منه فيما مضى . تحامله عليه . شعر برغبة في عناقه ، وأدرك أن ذلك مستحيل ، فهو عاجز عن الحركة ، وكان من المفروض أن يخضع لعملية جراحية في ساقه . يتذكر الآن أن الطبيب الذي أخبره بذلك أكد له أن أي تاخير في العملية سيؤدي إلى إصابته بالشلل النصفي ، وتابع لذا ينبغي أن تسدد المصاريف في أقرب وقت ممكن. لقد أدى سقوطك من تلك البناية إلى تمزق عميق في عضلات رجلك اليسرى . شعر بوخز حاد في قلبه . استوفرلما تذكر أنه مطروح في هذه الغرفة منذ عدة أيام .
وفجأة صرخ بأعلى صوته:
المجد لك يا بطل ، الحرية لك ، مزيدا من الصمود . لا بد للقيد أن ينكسر. ثم قرر أن يقبل خد الأسير ، ولو في الصورة ، فذلك أضعف الإيمان. استجمع قواة . حاول أن ينهض. ثم شعر بالدوار؛فسقط مغمى عليه.
أرسلت شمس الصباح أشعتها ، مثل سهام من نار إلى شاهد القبر الذي كتب عليه (شعيب. أسلم روحه إلى بارئها في السابع من أكتوبر ألفان وستة عشر. )