في حلقة يوم الأحد الماضي من برنامج “آخر الكلام” ، استضافني معد ومقدم البرنامج الإعلامي والكاتب أحمد زكارنه على إذاعة صوت فلسطين، ويعد هذا البرنامج، الذي يمتد لساعة من الزمن، واحدا من أكثر البرامج الحية والحيوية التي انتزعت حيزها في محيط جامد، وخلقت أرضية صلبة للكتاب والفنانين والأدباء لتداول الرأي، وسعت إلى ايجاد تفاعل حر، دون كاتم صوت، مع الطروحات الفكرية والأدبية والاجتماعية، وأثارت كلمة “أشباه مثقفين” في ما قلته عن اتكاء هذا البلد على أشباه مثقفين، انفجارا مكتوما، لم يكن ليكون للكلمة بحد ذاتها ذاك الدوي، لو لم تأت الآن، وفي سياق الحديث عن مستوى “النقد” الشائع في فلسطين هذه الأيام، والذي تحول من فعل تصحيح إلى حالة تجريح، حيث يغيب الوعي ويفرض الجميع نفسه ناقدا، فيما يغيب النقاد الحقيقيون، وحيث يبدو هذا الجدل اليومي وعلى أية قضية مؤقتا وطارئا وغير موضوعي ومنحاز ويعمل على دغدغة العواطف والمشاعر ولا يعمل على مخاطبة الوعي والفكر والثقافة ويبدو جزئيا ومحصورا وموجها بمعنى أنه يستهدف جهة دون أخرى وشخصا دون آخر وقائم على التصيد، وبلغة خطاب متردية؟
كانت الاسئلة كثيرة برسم التحرك الجاد من أجل تحويل النقد إلى حالة بناء وتصحيح وليس حالة هدم وتجريم، منها ما تعلق بالأدوار التي يمكن ان يلعبها حمَلةُ الوعي في الارتقاء بالحالة، وأعني حالة النقد القائم فكر الهدم والانتقاد لمجرد الانتقاد، ودغدغة العواطف إلى نقد ذاتي يستهدف الإنهاض والنهوض وليس التشهير والتخوين والتكفير والإهانة الشخصية والتطاول والشتم، وإجراءات التدخل كي لا يصبح استخدام هذه الصفات وجهة نظر، وما يمكننا أن نفعله أيضا حتى لا يتم استنئاس مفردات الوطنية والمفردات الدينية والاجتماعية في هدم الآخر من خلال اللعب على أسرع المواضيع اشتعالا وأقصد بها العاطفة؟
للإجابة عن سؤال الثقافة والمثقف، كان لا بد من طرح سؤال وجودي فيما يتعلق بالحالة الفلسطينية: من يقود من؟ وأيا كانت الإجابة، فإن التفكير في دور الفعل الثقافي كإجابة لا يرد مطلقا كخيار في ذهن المتلقي ولا حتى في أذهان الأدباء أنفسهم، على ما يبدو. اذا، ما الذي يفعله أصحاب الحالة الثقافية في فلسطين في ظل اتهامات بإدارة مشاريع خاصة، بل وشخصية جدا تتماهى مع دفع الثقافة إلى بنية القوالب الذهنية الجاهزة، فكلما استطال أحدهم، بدأ ورشة تضييق للقالب الواسع.
إن حالة الاستقطاب السياسي والديني والتربوي والتعليمي والاجتماعي وغياب دور المثقف في كافة مجالات التأثير المجتمعي المقروء والمسموع والنضالي والوطني والمكتوب، الخ، وليس في المنتج الأدبي نفسه، وسعي هذه المؤثرات جميعا إلى استنساخ نماذج متشابهة مكررة مكرورة وأحادية الفكر والتفكير من الشخوص والتابعين، سينتج بالتالي مسوخا انفرط منها عقدها الاجتماعي بالكامل في إطار غياب قوننة واضحة ومحلية للعلاقات التي تربطهم على أسس إدارية وقانونية واضحة ومرجعية. وإذا كانت كلمة أشباه المثقفين قد سببت إرباكا أو انزعاجا، فإن حالة الانزعاج ذاتها يجب أن تكون عامة، فالقضية ليست جلدا للذات ولفئة محددة من المجتمع نتجت عن منظومة القيم الاجتماعية والفكرية والتربوية التي خرج منها كامل المجتمع، وشكلت انسلاخاتها عنه حالة فردية وداخلية، بل هي سؤال فاقع ومحدد يدفع الكل إلى تساؤل كل شخص عن دوره وموقعه من حالة الاتكاء على التوصيف الفارغ دون مضمون أو بمضون قائم على الكم المعرفي وليس على الكيف، وتدفع باتجاه التفكير بضرورة التساؤل عن حجم تأثير “المثقف” ومسألة إعادة إنتاج الفلسطيني الظاهرة، وبالتالي يصبح السياسيون وكتاب الرأي والقيادات المجتمعية التي تصف نفسها أو توصف بالمثقفة عند أول منعطف، وما أكثر المنعطفات، أيضا في معرض المساءلة، حتى لا نضطر لاحقا إلى اسئناس مفردات مثل “أشباح” بلا من “أشباه” لوصف الحالة الراكدة.
إن الحديث هنا لا يدور عن تقييم الصورة أو انعكاس للثقافة والتثقيف في إنتاج أدب حلو يذهب بعيدا وخارج أطر العلاقات الشخصية بحلوها ومرها، بل عن حالة حراك بما يليق بفلسطين التي لا ينبغي بحال أن نختلف عليها، فيما يمكننا أن نختلف فيها بما يضمن وجود فسيفساء تغني المشهد كله، وحالة صحية من التغيير والتأثير وحرية الرأي، وبما يضمن أن تكون عملية التثاقف عملية طويلة المدى تجاه خلق مجتمع صحي قائم على الاختلاف المثمر لا المدمر، وبما يحفظ للاشخاص حقهم في كرامتهم وخصوصيتهم، ويعطي للتغيير مساحته الطبيعية القائمة على النقاش لا على البطش والتشدد والدوعشة الفكرية بالاتجاهين: اليساري جدا واليميني جدا.
إن التعصب لموقف ما هي شغل العارفين جدا او الجاهلين جدا، أما محاولات الوقوف في المنتصف من كافة القضايا فهي سمة التائهين، وهنا في محيطنا يتجلى عميقا التعصب عن جهل، غالبا، ومحاولات إمساك العصا من المنتصف، فما هو دور النخبة أو المثقفين أو الناشطين حين يتفاقم هذا المنحى الخطير في ظل عدم وجود مبادرات جديدة، أو آفاق تفتح، أو صوت يغرد خارج نشاز الأسراب التي تعثر في مداراتها ولا تسمع سواها، وحيث لا يوجد من الأشكال سوى الدائرة، ولا حضور لغير الفكر الأحادي الذي لا شريك له، ولا وجه سوى ما تفرضه الصدف والعلاقات النيئة، وحيثما تواجد حمله العصي من المنتصف.
الثقافة بقدر ما هي حالة شخصية جدا في علاقتها مع المعرفة وبالقدر الذي يفترض فيه أن تكون شخصية جدا ونسبية جدا، فانها، بذات القدر، تقاس بانعكاساتها وتجلياتها على الفكر والسلوك الشخصي والعام وعلى الكلام وفي المنتج الأدبي والصحفي، فهي ليست حالة استعراض يقاس بالكم المعرفي أو بعدد الكتب التي قرأها شخص ما، هي حالة الامتلاء الذي لا يني ينقص والنقص الذي يظل يكتمل إلى الأبد. إن المثقف حالة واعية ذات موقف، حالة قائمة بذاتها، واعية ومشرفة وغنية وحاضرة، بل وتشكل تهديدا، أحيانا كثيرة، ولا تتماهى مع أي سلطة قائمة لأنها حالة تفاعل داخلي بين المكتسب الفكري والحضاري والأسئلة والمحيط، بما يؤدي في المحصلة إلى تكوين ما يمكن أن نطلق لقب الظاهرة. في العالم العربي، يعتبر لقب المثقف تهمة، تستوجب عقابا من نوع ما، ولهذا فإن أغلب من حاولوا رسم مسارات التغيير أو بدؤوا بها، تعرضوا للتكفير والسجن والنفي والقتل، فكم متهما بالثقافة في حالتنا الفلسطينية، الآن؟
_________
*شاعرة وإعلامية فلسطينية