في سبيلِ سُوزي

خاص- ثقافات

*حازم شحادة

بعدَ يومينِ منَ المعركةِ الطاحنةِ التي جَرَت في الشَّمالِ السُّوري، تمكَّنَ رفاقهُ مِنَ العثورِ على الجثّة.
انسَحَبت قطعانُ الهمجِ صوبَ الأراضي العثمانية تحتَ وطأةِ القصفِ المدفعي العنيفِ فتمكّنَ الرفاقُ مِن دخولِ المدينةِ المنكوبة.
بالقربِ من خزَّانِ مياهٍ مُخترقِ بتسعِ رصاصاتٍ، تحتَ كومةٍ منَ الإسمنتِ المُكَسَّرِ كانت الجُثّة مُمدَّدةً وقربها عددٌ من فوارغِ الطلقات .
تعاونَ الجميعُ في رفعِ الأنقاضِ وانتشالِ الجسدِ الهامد.
على الشَّعرِ غبارٌ كثيفٌ.
توزَّعت خمسة جروحٍ عميقةٍ بينَ الجبهةِ والخدَّينِ أمَّا البِزَّةُ العسكريةُ فكانت مُمَزَّقةً في أكثرِ مِن موضعٍ وعلى ظاهرِ اليدينِ تناثرت قطراتٌ من دمٍ مُتخثّر.
وضعوهُ على حمَّالةٍ اسعافيةٍ ثمَّ تولَّى اثنانِ منَ الرفاقِ نقلهُ إلى مَقرِّ القيادةِ.
بعدَ إتمامِ الإجراءاتِ صدرت الأوامرُ بإعادتهِ جوَّاً بحوامةٍ عسكريةٍ إلى مسقطِ رأسهِ في تلكَ القريةِ الساحليةِ ليوارى الثرى.
كانتِ المرة الأولى التي يركبُ فيها طائرة.
لم يَكُن بحاجةٍ للاتصالِ بمكتبِ الطيرانِ كي يحجزَ تذكرة ولم يكُ منَ الضروري أن يتواجدَ في المطارِ قبل ساعتين.
لم يفتش أحدٌ أمتعتهُ.
شَعَرَ أنهُ شخصٌ مهمٌّ لأولِ مرةٍ في موته.
كانت جثتهُ مسجاةً في تابوتٍ مفتوح.
على ارتفاعِ 15 ألف قدم شاهدَ بلادهُ لأوّلِ مرة من الأعلى.
ـ كما أعرفها.. حلوة.. لكنها قحبة تُحبُّ الأغنياء.
عليها اللعنة.
قالَ لنفسهِ متمنياً لو كانَ بمقدورهِ أن يشعلَ سيجارة.
ـ هذا الموتُ الخسيسُ يحرمُ الرجلَ من كلِّ شيءٍ حتى السجائر.
بما أنني شهيد سأطلبُ من الله أن تكونَ خدمة السجائرِ متوفرة في الجنة.

حطّتِ الطائرة في أرضِ المطارِ العسكري وبعدَ القيامِ بالترتيباتِ والاتصالاتِ الضرورية تولّت سيارة إسعافٍ نقلَ الجثة إلى القرية.
كانَ للجثةِ والدٌ متوفى وأمٌّ عجوز سبقَ وأن استشهدَ لها في الحربِ السورية ولدانِ آخران.
حينَ أخبروها أن الثالثَ قد سافرَ إلى العالمِ الآخر لم تجد دمعاً في عينيها.
كانَ قلبها قد جفَّ منذ زمنٍ وتجهلُ تماماً كيف تبقى على قيدِ الحياة.
سلّمها المسؤولُ صورة كبيرة لابنها كي تُعلقها على الجدارِ ثم انزوى خلف شجرةِ زنزلختٍ بعد أن تلقى من ابنهِ هاتفاً ضرورياً.
ـ بماذا تريدني الآنَ أن أذهبَ إلى حفلةِ سوزي؟
قالَ ابنُ المسؤولِ الوطني.. بعصبية.
ـ لماذا لم تخبرهم أن يصلحوا سيارة المارسيدس؟
ـ أنا في جنازة شهيد، ليس الآن وقت المارسيدس وسوزي
أجاب المسؤول المرتبك..
ـ  ما رأيكَ أن تذهبَ بسيارةِ الكيا فهيَ جديدة؟
أنا مضطرٌ لإنهاءِ المكالمة..
استمتع حبيبي.
غمزَ المسؤولُ مرافقيهِ كي تتمَ إجراءاتُ الدفنِ بسرعةٍ.. وهذا ما تم.
مساءً..
كانَ التلفازُ الحكومي يستضيفُ ذاتَ المسؤولَ في برنامج ( كلنا شهداء) حيثُ تحدَّثَ مطولاً عن أهميةِ الموتِ في سبيلِ سوزي.

_________
*شاعرٌ وكاتبُ قصةٍ قصيرةٍ من سوريا

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *