*بريان بيلستن/ ترجمة : أحمد شافعي
حاز بريان بيلستن لقب “أمير شعراء تويتر غير المتوج” وهو الذي كتب الشعر بالصدفة عبر مواقع الإعلام الاجتماعي، في هذه المقالة يشرح بيلستن قوة الشعر “الإلكتروني”.
بدأت الحكاية بتويتة. وما كان يخطر لي أن يحدث هذا.
حتى أنني لست على ثقة من أنها قصيدة. هي أقرب إلى لعب بالكلمات، كل كلمة اختيرت بحرص لتتواءم الكلمات كلها في حدود النقرات المائة والأربعين التي يفرضها تويتر.
جاءت على النحو التالي:
استقللتَ آخر حافلة
إلى البيت
لم تعرف كيف عبرت
بابها
ولكنك دائما
تفعل أشياء مدهشة
كتلك المرة التي
استقللت فيها
قطارا.
وبعثتها، ثم خرجت. بالمصادفة، كنت ذاهبا لرؤية شاعرة، شاعرة حقيقية، شاعرة متوجة، هي كارول آن دافي شخصيا [شاعرة البلاط في بريطانيا]، في أمسية كانت مقامة لها في تلك الليلة.
أغلقت هاتفي ثم مرَّت سويعات قلائل حتى رجعت إلى البيت وفتحته مرة أخرى، ورأيت إشعارات تويتر وقد جن جنونها، لقد أعيد نشر تويتتي مئات المرات، وأصبح لدي 200 متابع جديد. كان رد فعل من نوع لم أكن معتادا عليه نهائيا.
بعد أسابيع قليلة حاولت مرة أخرى. بقصيدة عنوانها “الطبق الطائر”.
طبق طائر يمرق
في الهواء
فوق رؤوسنا
فوق الرمل
نحو الماء
نحو الموج
نحو البحر.
كم بكيت يومها طبقا طائرا
كان كلبا شديد الجمال.
ومرة أخرى حظيت باستقبال جيد. بمزيد من إعادة النشر. وهكذا بدأت مسيرتي المهنية كشاعر في مواقع الإعلام الاجتماعي.
لم أكن أنتوي قط أن أكون شاعرا. فالشاعر في رأيي شخص على قدر كبير من القوة والجدية، شخص لن يروق لك أن تجد نفسك وإياه في مطبخ أثناء حفل (إن كان الشعراء يتلقون دعوات إلى حفلات من الأساس).
لم أكن أتذكر بوضوح مصطلح “التفعيلة الخماسية السكندرية” من أيام الدراسة. وكنت لا أكاد أعرف عدد المقاطع الصوتية في الهايكو، ولم يكن لدي غير أوليات عن شعر إليوت و[فيليب] لاركن، وكان أبطالي الحقيقيون هما روجر مكجاو وأوجدن ناش.
لم أكن أنتوي مطلقا أن أضيِّع حياتي في الإعلام الاجتماعي أيضا. حتى تويتر، شأن كثير من الأشياء غيره، كنت قد عرفته متأخرا. ولم أنضم إليه إلا لأفهم ماذا يكون ذلك الشيء الذي يتكلم عنه الناس في العمل ـ وكلهم أصغر مني ـ كلاما كثيرا ومثيرا للضيق أثناء الاجتماعات.
فانضممت إليه، وشأن كثير من المغردين في بداياتهم، كانت تويتات الأيام الأولى مجرد نكات سخيفة وألعاب كلامية مكرورة في الفراغ الأثيري.
ولكن شيئا ما بدأ يتبرعم في الخلفية، وهو أنني بدأت عبر تويتر أتكلم مع غرباء (بعضهم غرباء للغاية) وأقرأ عن أشياء تثير اهتمامهم أو ضحكهم أو ضيقهم أو حزنهم أو غضبهم.
وبدا أنه ما من شيء يجعل تويتر أكثر غضبا من الخطأ في النحو. ففي مقابل كل خطأ إملائي أو تركيب سقيم، كنت تجد مئات النحويين المتحذلقين يقفزون ليفضحوا الخطأ.
فبدأت أكتب قصائد عن هذه الجرائم الشنيعة، كالخطأ في استعمال الفاصلة المنقوطة، وقاعدة تتابع حرفي الـi والـe، وبالطبع أكثر قواعد الترقيم إثارة للجدل وهي فاصلة أكسفورد، مع سخرية رقيقة من منفذي قوانين النحو:
شرطة النحو
اعتقلته شرطة النحو
صادرت مصدره
وأزالت فاصلته
وتركته هناك
ممنوعا من الصرف
في اليوم التالي
أعربت الشرطة
عن أسفها لوفاته.
بدأت أتلقى ردود فعل على قصائدي من مستخدمي تويتر. فكان من الشائع بينها “كنت أكره الشعر في المدرسة. لم أتصور قط أن أجد نفسي أعيد نشر قصيدة”.
أو “أنا لا أحب القصائد، ولكنني أحب ما تكتبه مهما يكن”.
لا زلت لا أعرف هل هذه مجاملات أم غير ذلك. ولكنها نبهتني إلى حقيقة نظرة الارتياب في الشعر لدى عدد هائل من الناس، برغم صحوة شعبيته في الفترة الأخيرة بلا أدنى شك.
إننا نرى علائم الاهتمام الجديد بالشعر أينما ننظر حولنا، في تنامي اللقاءات الشعرية، وحركة الكلمة المكتوبة، والعروض الأدائية الشعرية، وورش الشعراء المبتدئين، والتزايد الصاروخي في أعداد أعضاء الجمعيات على المستويين الوطني والإقليمي، وازدياد النشر الشخصي، وذهاب جيل جديد من الشعراء الناشئين مثل كيت تيمبست وجورج الشاعر إلى نوعيات جديدة من الجماهير.
ولكن خارج دائرة هذا المجتمع المتنامية، يظل الانطابع العام هو أن الشعر ـ بالمعنى العام ـ شيء صعب، متعمد البرود والغموض، وسخيف في الغالب، وينطوي على قصدية استعمال كلمات كـ “الغسق”.
ولا عجب أن مهنة نشر كتب الشعر مهنة محدودة، فقليلة هي العناوين التي تبيع كميات ذات شأن، وهو ما حدا بالناشرين التجاريين والوكلاء الأدبيين بصفة عامة إلى الانصراف عن الشعر.
فلم تعد كتب الشعر تصدر إلا عن مطابع متخصصة قصيرة العمر أو على نفقة مؤلفيها. وباتت أقسام الشعر في متاجر الكتب تتقلص من شهر إلى آخر. فبرغم وجود الكثير من الشعر لا يوجد كثير من الراغبين في شرائه.
ولكن الإعلام الخاص يبيِّن لنا أن ثمة إقبالا أكبر وأكثر ديمقراطية على الشعر في نهاية المطاف.
في يونيو، تواترت الأخبار الرهيبة عن اغتيال عضو البرلمان جو كوكس، فنشرت جمعية الشعر ـ وهي منظمة بريطانية معنية بترويج دراسة الشعر واستخدامه والاستمتاع به ـ عبر تويتر قصيدة “آلة جز العشب”، وهي من قصائد فيليب لاركن المتأخرة.
تتكلم القصيدة عن وفاة قنفذ، وثب بين نصال آلة جز العشب. القصيدة أسيانة لكنها دافئة وقوية. وجابت القصيدة تويتر بسرعة الضوء مندفعة خارج فقاعة جمعية الشعر ومتابعيها لتصل إلى جمهور أوسع، إذ أعيد نشرها 3500 مرة وقرأها نصف مليون قارئ في غضون أيام قليلة.
وهي قصيدة لا تفعل إلا ما يفعله كل الشعر الجيد: تؤثر فينا وتنطق بما يجول في عقولنا وأنفسنا ونعجز نحن أنفسنا عن إيضاحه، فهي شخصية، وإنسانية في آن واحد.
وتبقى حتى بعد سبعة وثلاثين عاما من كتابتها ذات صلة بما حولها. إنه الشعر بوصفه حدثا جاريا. والقصيدة بوصفها تعليقا اجتماعيا. وربما تكمن هنا قوة الإعلام الاجتماعي بالنسبة للشعر، فهو فضاء يسمح بتبادل الكلمات في وقت الحاجة، يمنح الشعر فورية لا تمنحها له وسائطه المعتادة، فهو ليس حبيس الكتب أو الأرفف، ولا ينتظر الإلقاء في فعالية تقام بعد أسبوعين. بل إنه موجود عند الحاجة إليه، أي عندما نحتاج نحن إليه.
لكن العلاقة بين الشعر وجمهور الإعلام الاجتماعي الأكثر تتجاوز رد الفعل الفوري الواضح على المآسي. فمنصة مثل تويتر يمكن أن تكون مصدرا للأفكار لا ينضب أمام الشعراء.
فبدون هاشتاج على تويتر، ما كنت لأعرف عن يوم بنجوين للوعي أو الأسبوع الوطني للأدوات المكتبية. في السنة الماضية اصطفت النجوم وتزامنت ثلاثة احتفالات في يوم واحد: اليوم العالمي للفلسفة، واليوم العالمي للرجال، واليوم العالمي للمراحيض، الأمر الذي أدى إلى ظهور قصيدة “اليوم العالمي لفلسفة مراحيض الرجال” التي تجمع بين الأحداث الثلاثة:
أهي الفطرة أم الاكتساب
تساءل نيتشه
أيهما يجعل الرجال
يتركون أغطية المراحيض
مرفوعة؟
يرى أغلب الناس أن الشعر يتعلق بمفاهيم إنسانية وأفكار كبيرة كالحقيقة والحب والموت والخيانة والندم. هناك كل تلك الثيمات الكبرى التي لدينا أسباب وجيهة لتأملها طوال حياتنا. ولكن هناك شعرا يمكن العثور عليه في أشياء تنتمي إلى واقعنا اليومي أيضا، في تفاهات حياتنا التي تعترض أحيانا مسار الثيمات الكبرى، والإعلام الاجتماعي هو الساحة المثلى لتبادل هذه.
هيا نمارس الحب
هيا نمارس الحب بأسرع ما نستطيع
عندما ترفع الأطباق عن المائدة
وتوضع في غسالة الأطباق بانتظام
ويزال عن السطح كل فتات الخبز والبيض
أما الطاسات
فيمكن أن نتركها منقوعة.
هناك دروس أخرى يمكن أن يتعلمها الشعراء من الإعلام الاجتماعي تتعلق بالحفاظ على الإثارة في كتابتهم، وجعلها ذات صلة بالجمهور الحديث. ذلك أن الطريقة التي نستهلك بها المحتوى بدأت تتغير.
فكل وقت نقضيه ونحن نتقلب في مستنقع الإعلام الاجتماعي يبين لنا مدى بصرية المعلومات التي نشتبك معها، صحيح أن الكلمات حاضرة بوفرة، ولكن هناك كذلك صورا وفيديوهات أيضا.
إن حاجز المعلومات الذي نصادفه معترضا وجوهنا يعني أن الكلمات وحدها على الصفحة تغدو أقل احتمالية للقراءة. الناس تناضل للعثور على وقت، والميل أو القدرة على التركيز تتلاشى عبر صفحات النصوص الكثيفة. إذ تجد الكلمات نفسها في منافسة مع الصور.
ولكن الشعراء لا يجب أن يشعروا بتهديد من الإعلام الاجتماعي، بل إنه يمنحهم الفرصة للتفكير في الشكل مثلما في المضمون وفي أن طريقة تقديم القصيدة قد تعزز الكلمات المصاحبة أو تكملها.
بدأت أجرب جوانب الشعر البصرية حينما كتبت قصيدة على شكل “شجرة عيد الميلاد”. القصيدة نفسها كانت عن إهمالي ري الكلمات، وأوضحت ذلك بجعلي الكلمات منتشرة في كل مكان في نهاية القصيدة مثل أوراق الصنوبر المبعثرة على سجادة.
ورق شجر الصنوبر
كتبت
قصيدة
على شكل
شجرة عيد الميلاد
ثم نسيت أن أرويها
لأيام قليلة
بعدها
الكلمات كانت
في كل مكان على
السجادة
طريقة تقديم القصيدة كانت الأساس، فهي التي ساعدتها على البروز وسط مئات من تويتات مستخدمي تويتر.
وتلت ذلك أشكال وصور أخرى. نحن نعيش زمن الإنفوجرافيك، والبيانات، والرسوم التوضيحية. لاحظت على تويتر كيف أن الجميع يستمتعون بشكل جيد من أشكال فين. فكتبت قصيدة مستعملا حكايتين شخصيتين مختلفتين منقسمتين إلى نصفين في شكل من أشكال فين، مع كلمات تشترك فيها القصتان في منطقة يتداخل فيها الشكلان لتكوين شكل ثالث يوحّد منظور القصيدة. [تعذرت ترجمة هذه القصيدة ـ المترجم]
وبدأت من هنا قصائد الأشكال، أو القصائد المؤلفة بمربعات لعبة سكرابل، وفي جداول إكسل وعروض باوربوينت، وعلى شكل سيرة ذاتية، وفي شكل كؤوس نبيذ، ومصابيح. وانتشرت كلها وشاعت.
نعم، ساعدت الجدة القصائد على الظهور، ولكنها أيضا انطوت على كلمات في أماكن أو مواقف رأى الناس فيها أنفسهم.
فما الذي تعلمته بالصدفة، من كوني شاعرا بالصدفة؟
الشعر في الإعلام الاجتماعي أكثر من تيار لانهائي من الهايكو عن تغير نور القمر على الماء أو جمال براعم الكرز. بل هو أكثر أهمية وإثارة بكثير.
هي فرصة للشعر أن يقدم نفسه في مواقف يحتاجه الناس فيها أكثر ما يحتاجون إليه كسبيل للعثور على المعنى أو الارتياح من أحداث العالم الكبيرة المستعصية على الأفهام، أو ربما ببساطة لإمدادهم بارتياح بسيط من تعقيد الحياة وارتباكها.
لكنه أيضا منصة للشعراء أنفسهم للتفاعل والاشتباك مع جمهورهم والعثور في حقيقة الأمر على جماهير جدد من خلال تجريب في المضمون والشكل والاشتباك الأعمق مع هموم العالم الحقيقية.
وسأختتم كلامي بقصيدة أخرى، كتبت بعد يوم كان تويتر فيه غير متاح طوال فترة العصر فأثار غضب الملايين في العالم. عنوانها “يوم وقع تويتر”.
يومها أنجزت أشياء.
خرجت للجري مسافة طويلة.
لعبت تنس الطاولة.
كتبت أغنية.
وصل إلى المرتبة الأولى.
يومها فعلت الكثير.
عقدت عقدة وندسور.
ساعدت فقراء.
أوقفت حربا.
قرأت والتر سكوت كاملا.
آه يا له من يوم.
تعلمت قليلا من الكنتونية.
قدت انقلابا.
تسلقت كيه 2.
عالجت مرضا استوائيا.
يومها التزمت بمواعيدي.
توِّجت ملكا،
ربتت على طائر
عثرت على اللورد لوكان
ثم رجع تويتر.
_________________________________
*مدونة قراءات أحمد شافعي