حين كان الاحتفاء بزوجة مؤلف مجهول وسيلة لمواجهة الجمود الفكري

* ناهد زيان

شهدت مصر فى أعقاب الحرب العالمية الأولى تطورا كبيرا فى مختلف نواحي الحياة وإن كانت جذور هذا التطور قد بدأت قبل الحرب وخلالها إلا أنه مع انتهاء الحرب أخذت الأمور تتطور سريعا.

فعلى سبيل المثال سياسيا ظهر الوفد بزعامة سعد زغلول، مع المطالبة المستمرة بانتهاء الاحتلال البريطاني. واجتماعيا نشطت حركة تحرير المرأة بزعامة هدى شعراوى وصويحباتها فضلا عن نشاط حركة الصحافة النسائية ونشأة الجمعيات على اختلافها وغير ذلك كثير.

أما عن الوسط الثقافى فكان ما تميز به فى تلك الفترة التفاعل والنشاط فكان ظهور كتاب جديد يحظى باهتمام بالغ وحفاوة ملحوظة فى الأوساط الأدبية وعلى صفحات الصحف المختلفة.

ففى أول يناير 1926 نشرت المصور خبرا يقول: ظهر أخيرا كتاب «فتح مصر الحديث أو نابليون بونابرت فى مصر» لمؤلفه أحمد بك حافظ عوض وقد نشر على الصفحة الثالثة منه، بخط بديع العبارة الآتية:

إهداء الكتاب: «إلى زوجتي العزيزة التي لولا تعضيدها ومساعدتها ما أمكن تأليف هذا الكتاب.. أحمد حافظ عوض».

وما زال الكلام للمصور فتواصل: وقد فصل خبر هذه المساعدة فى مقدمة الكتاب فذكر أنه بدأ فى عمله فى أول أيام الحرب العظمى ثم أهمله بعد الهدنة الأولى إلى أن قال:

«…. وكدت أن أنسى ما كتبته حتى أهملته، لولا حنين كان يتولاني من آن لآخر، ولولا أن زوجتى الفاضلة كانت تذكرني به فى أوقات مختلفة، لأنها اشتركت فيه معي بروحها، وبمساعدتها لي فى تعريب بعض القطع من الفرنسية إلى العربية، فى الأيام التى قضيتها معها فى شبه منفى بالإسكندرية…».

وأحمد حافظ عوض رجل تلقى تعليما أزهريا وعمل بالصحافة فكتب فى العديد من الصحف وأصدر بعضا منها أيضا، كما أنه أديب ومترجم وله العديد من المؤلفات أشهرها هذا الكتاب «فتح مصر الحديث، نابليون بونابرت فى مصر». وتتمثل شهرته الكبرى فى كونه عمل سكرتيرا للخديو عباس حلمى الثانى ورافقه مدة طويلة حتى بات مواليا له ومتأثرا فى كتاباته عنه بما كان من علاقة وثيقة بينهما.

أما الكتاب فهو يهتم بتاريخ مصر قبيل القرن التاسع عشر، والعوامل التي دفعت نابليون للاتجاه صوب مصر وموقف المماليك ودورهم من الأحداث، وحالة مصر اقتصاديا واجتماعيا قبل مجيء الحملة الفرنسية بقيادة نابليون وتأثر الاقتصاد المصري بتواجد إنجلترا فى الهند، وعرض لدخول العثمانيين مصر وقضائهم على الحكم المملوكى بها.

وفور صدور الكتاب وتناول الصحف لأخباره كما فعلت المصورأقام فريق من الأدباء والمثقفين والكتاب فى بداية فبراير 1926 حفلا لتكريم مؤلفه أحمد حافظ عوض وخطب فى ذلك الحفل عدد منهم ممتدحا جهد الكاتب ومثابرته. وكان من أبرز هؤلاء الخطباء الشيخ علي عبد الرازق ومما قاله فى خطبته:

«إن ذلكم الكتاب القيم لم يكن من عمل حافظ وحده لكن لحافظ فيه شريك هو زوجته الفاضلة وكان لها حق طبيعي فى أن تشاطر زوجها حينئذ فيما يليق به من إكرام وما يقدم إليه من مظاهر الاحترام وما يعرف له من فضل وما يسجل إليه من جميل، ولكن تقاليد جامدة قاسية تحول بين السيدة الفاضلة وبين مشاركة زوجها الكريم تلقى حظها فى الثناء على عمل كان لها فيه حظ كبير، وتضرب الحجب بين السيدات وما لهن من حق معروف» ويواصل الشيخ على عبد الرازق حديثه فيقول: « على أننا رغم تلكم التقاليد العتيقة الظالمة لا نغمط السيدة الفاضلة حقها ولا ننسى حظها» ثم يختم الشيخ كلامه قائلا: «وإذا قلنا حافظ فإنما نعنى فى الحقيقة حافظا وزوجته الفاضلة وإذا نحن أثنينا عليه فقد أثنينا عليها معه وإذا نحن أكرمناه فقد أردنا أن نكرمهما معا».

ورغم أن الإشادة فى ذلك الوقت بجهد ودور سيدة فى عمل أنجزه زوجها بمساعدتها وتشجيعها بشكل علني وعلى صفحات الجرائد كان أمرا إلى حد ما جديدا على المجتمع الذي لم يكن يستسيغ مشاركة المرأة بعد وخروجها إلى الحياة العامة إلا أن ما قاله الشيخ على عبد الرازق لا يعد أمرا مفاجئا ولا غريبا على شخصيته.

فمما هو معروف عن الشيخ علي عبد الرازق أنه رغم كونه تعلم في الأزهر ونال منه شهادة العالمية وهي أعلى الشهادات العلمية التي كان يمنحها الازهر آنذاك فإنه سافر إلى أكسفورد ليدرس الاقتصاد لكن قيام الحرب العالمية الأولى أعاده إلى مصر، فعين عقب عودته قاضيا شرعيا. ثم ألف كتاب «الإسلام وأصول الحكم» الذى صدر عام 1925، ذلك الكتاب الذى تسبب فى صدور أحكام قاسية بحق على عبد الرازق فطرد من زمرة العلماء وسحبت منه درجته العلمية وفصل من وظيفته فى القضاء وقيل إن ذلك كان بإيعاز من الملك فؤاد الطامح فى الخلافة وقتها بعدما صار منصب خليفة المسلمين شاغرا بزوال الخلافة العثمانية. كما انتقد تيار الأصوليين كتاب «الإسلام وأصول الحكم» بل اتخذوا من الكتاب وصاحبه موقفا معاديا وطالبوا بمحاكمة مؤلفه لأنه تجرأ على ثوابت الدين الإسلامى وتقول على الإسلام والرسول والخلفاء ما ليس فيهم.

20150701_111949_2093

كانت أهم الأفكار التي احتواها كتاب «الإسلام وأصول الحكم» باختصار شديد أن الخلافة الإسلامية ليست من أصول الإسلام، بل هى أمر دنيوى وسياسى حيث لم يرد بيان فى القرآن ولا فى السنة يؤكد وجوب تنصيب الخليفة أو اختياره. ورأى عبد الرازق أن الخلافة كانت نكبة على الإسلام والمسلمين.

هذا وعلى الرغم من أن التيار الرافض لكل ما احتواه كتاب الإسلام وأصول الحكم من أفكار ووجهات نظر كان قويا فإنه لم يكن تيارا عامامنفردا حيث وجدت بعض الأصوات والأقلام التى نادت بحرية الفكر والإبداع وأحقية كل إنسان أن يعبر عن رأيه دون أن تنصب له المشانق وتكال له الاتهامات ويتعرض للتنكيل والمحاكمة، وكان أبرز هؤلاء عبد العزيز فهمى الذى استقال من وزارة الحقانية فى مارس 1925 تضامنا مع مؤلف الكتاب وعباس محمود العقاد ومحمد حسين هيكل وسلامه موسى وغيرهم.

وعليه يمكننا أن نضع إشادة الشيخ علي عبد الرازق بما كان من فضل لزوجة المؤلف أحمد حافظ عوض فى خروج كتاب زوجها للنور فى سياقه الصحيح وأنه كان محاولة لمواجهة جمود المجتمع فكريا أو جانب كبير منه فما ذكرناه من خطبته تجده يقول: «ولكن تقاليد جامدة قاسية تحول بين السيدة الفاضلة وبين مشاركة زوجها الكريم» وكذلك قوله: «التقاليد العتيقة الظالمة» فكانت خطبة الرجل فى بداية عام 1926 فى حفل تدشين كتاب «بونابرت فى مصر» بمثابة ردة فعل عما لاقاه الرجل من عنت وجمود وتنكيل به طوال عام 1925 الذي صدر فيه كتابه «الإسلام وأصول الحكم»، ذلك الكتاب الذى قيل عنه انه منذ عرفت الطباعة طريقها إلى بلادنا لم يحدث أن أخرجت المطبعة كتابا أثار من الضجة واللغط والمعارك والصراعات مثلما أثار هذا الكتاب.

_______________________

*جريدة القاهرة

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *