في مجموعته الشعرية «سبعة طيور» (دار توبقال، الدار البيضاء)، يشيِّد الشاعر المغربي «محمد بنيس» عالماً عارياً، غفلاً، يبدو وكأنه لا يزال في طور التكوين. ومنذ الوهلة الأولى نجد أنفسنا حيال وجود عاصف، يتشكل بعنف في كل لحظة، عصياً على التهذيب أو الكبح.
بشكل شخصي، استشعرت قصة خلق تتحقق شعرياً عبر الحلقات المتلاصقة للديوان. ثمة ذات واحدة يمكن العثور عليها في خلاء العالم، محاطة بالحضور الكثيف لعلامات العالم الطبيعي: مياه، جبال، عواصف وغيوم، يابسة لم تعرفها الخرائط، ليل ونهار لم يكتسبا بعد الدلالة، وجدران لم تتحول بعد إلى بيوت.
ماذا عن «الذات الشاعرة» إذن؟ هي مبدئيا ذات عزلاء، كأنها هنا ذات أولى، غادرت الفردوس لتوها، كأنها صورة من «آدم»، بلا بيت حتى، تخبر التيه في عراء شاسع، وتختبر وجودها لأول مرة، لم تفقد بعد أواصرها ببريتها، ولم تدر بعد كيف السبيل إلى إقامة حوار مع عالمها الجديد: عالم الثقافة.
لكن.. ثمة مفارقة رغم ذلك، فهذه الذات هنا آخذة بالكتابة. يؤسس هذا لوعي قطع شوطاً في وجوده، صاغ لغة، واخترع طريقة لحفظها.نحن إذن أمام «قناع» تتحرك عبره الذات الشاعرة، لكنه ليس قناع النبي أو الرائي، بل قناع نقيض تماما، يزيح وجه اليقين من أجل الانخراط في الشك.
الكتابة هنا لا تلي الخبرة بالعالم، بل تتزامن مع تحققها. هكذا يلتبس العالم باللغة، حتى لا نكاد نعرف، هل العالم نص يتحقق حين يكتب، أم أنه هو نفسه يحاول اختراع لغة تسميه؟
(في الفضاء الذي يتآلف من كلمات البعيد/ في الفضاء الشقيق/ الذي يتناسل/ مما أقول ومالا أقول/غيمة/ كنت أحسبها جسدا/ أبدا لا يزول).
يقودنا مباشرة لتملِّي اللغة الحاضرة هنا. تستعين الذات الشاعرة على حواريتها مع الوجود بلغة كثيفة، تبدو وكأنما تجاهد لمنحها وجوداً خاصاً. ليست اللغة هنا محض وسيط، ليست الدوال أسطح شفافة نعبرها لفضاءات دلالية جاهزة سلفاً. من هنا يصير الاستخدام اللغوي نفسه موقفًا من إعادة تشكيل الوجود عبر اللغة.
الدوال لا تحيل لمرجعيات متفق عليها، أو لآفاق دلالية جاهزة خلف العلامات، بل تبدو اللغة وكأنما شغوفة بتفكيك المستقر من إحالات. إنه تأكيد آخر على ما يعتمل عبر النصوص من خلق. ليس ثمة من عالم يقدم جاهزيته، أو معنى تم الاتفاق عليه بعد.
من هنا، تبدأ عملية تعريف دائبة لكافة العلامات، لتشكيل معان تخاصم المعرفة الاصطلاحية: ( أبيض: هواء يفتق الدوائر/ أسود: تراب يكلم معشر العابرين/ أصفر: نار تنزل من درجاتها الأحلام/ أزرق: ماء تغطس في دفء لذته الحروف). هذا النقض للاتفاق، اللوذ باللغة خارج إعادة انتاج لعبة التواصل، هو في ظني ما يجعل الذات الشاعرة تمعن أكثر في توحدها. يصير «هناك» وجها لـ «هنا»، كما يؤكد عنوان إحدى القصائد، وتتحول الجدران عن كل خبرتنا بها لتصبح مرادفا للوجود السماوي المفارق تماما لشرطها الأرضي (الجدران تطلق أجنحتها ظلالا هبة كانت لك في هجرة أنت مولاها/ الضجيج بالجدران محيط في السماء غميمات مدلاة)
ذلك اللايقين لاح لي أيضا على مستويات التشكيل، بدءا من المراوحة القائمة بين النثر والتفعيلة، فبينما تتحقق عدد من القصائد كأشعار نثرية، تنحاز أخرى للوزن. إن هذا الامتزاج يخلق الإيقاع العام للنصوص في قراءة كلية، بين القلق والطمأنينة، بين الانسجام وعدم الانسجام، بين النظام والفوضى. وبالقدر نفسه، تحدد تلك الآليات موقع الذات.
ليس ذلك فقط، لكن توزيع السطور الشعرية على الصفحات يبدو متألبا على أي رؤية ثابتة، بين سطور مقسمة كيفما اتفق لشكل القصيدة، وأخرى موصولة بامتداد الصفحة، لا تفصلها سوى الفواصل.. بل وتنداح أحيانا دون أي فاصلة، مقدمة غوايات صورية وكأننا أمام لوحات دادية قادمة مباشرة من الوجود المستقل وغير المشروط للحلم ولشطط المخيلة. إنها تقنية أخرى عميقة الدلالة تحيل إلى موقف الذات، (هل الذات بدورها صورة؟) التي تتراوح بين لحظة التأمل الكثيفة ولحظات السرد التي لا تخفي ولعها بحكايات ما كامنة في الأفق الشعري. ليس ثمة من خصام لأي أفق، حيث الذات هنا لا تنطلق من توصيف أو معرفة مسبقة لخطاب بعينه عليها أن تتبنى قوانينه. كيف تحضر الذوات الأخرى؟ . إن الذات الشاعرة تبدو وكأنما موجودة وحدها في قلب العالم، المهجور من أشباهها، لذا فهي صوت مفرد، حتى عندما يستدعي ذاتا أخرى، فإنه يناجي نفسه على هيئة الآخر: «هجرة بين الأنا والأنت أبصرها مجسدنة». ليس ذلك فقط، لكنها تكثر من ظلالها، تنشطر إلى ذوات عديدة عندما تبغي التورط وسط مجموع: (أيهما جليسك/ أنت وحدك أم هو الشخص الذي صادفت في الطرقات/ صرت اثنين صرت جماعة).
في مرحلة متقدمة من التجربة يبدأ الآخرون في الإطلال. حضور يبدأ بالأشباح، أشباح ذوات غير مسماة.. وهي تمثل أطيافا لوجود جمعي، يمكن أن نتشكك في كونه تجسد ذات يوم. يصعب التعرف فيها على فرد، أو ذات بعينها: ( تصفو المسافة نحو أشباح تكلمني). تدريجياً، ستشير الأشباح إلى أسماء، غابت أجساد أصحابها. هكذا تحضر قصائد تستحضر «محمد ديب»، و«محمود درويش» وغيرهما. من جديد، تصر الذات الشاعرة على استحضار أشباحها في علاقاتها بفضاءات وجودها البكر. يحضر ديب، كشبح شعري، في فضاء مدينة تتشكل، حيث البطل هو «النوافذ»، والتجسد هو المكان.. ويمثل درويش عبر «سبعة طيور»، في بعد سماوي مفارق للوجود الأرضي، حيث تقرأ الذات وجوهه في طيور متراوحة الألوان والسمات والخصائص، كأنما تستدعي إقامات حياته عبر رفرفات موته. وفي كل الحالات، سيكون من الصعب اختبار الشخوص الشعرية في ظل أصولها الواقعية وفق أي محاكاة. إنه سبر يحول حتى «الآخرين»إلى امتدادات للأنا وانعكاسات لصورتها، كأنما هي ترى في العالم مرايا لكشف أبعادها، ولتأكيد حضورها المفرد.
_________