تزامن يليق بما انتهى إليه المشهد العربي من تذرر وحطام أطلال ذلك الذي أصبح فيه بيت الشابي قبرا دارسا بلا شواهد، وعلى بُعد استغاثة واحدة منه تحول بيت رائد الموسيقى العربية وحادي الشعب سيد درويش إلى زريبة، فالموتى حتى لو كانوا ممن وهبوا الأحياء هويّة وأبقوهم على قيد التاريخ، أصبحوا الآن عرضة لإعادة القتل، ولا أدري لماذا تخيّلت وأنا أرى البيت الذي عاش فيه الشابي وأصغى منه إلى موسيقى الوجود وأذاب روح الكون في إنشائه وهو يعج بالأشباح التي تردد في مظاهرة لم ترصدها فضائيات وصحف وشهود عيان:
إذا الشعب يوما أراد الممات
فلا بد أن يستجيب الحجر
وإن كنت أعتذر من الشابي عن هذا التحوير فذلك لأنه لا بد أنه تقلب في قبره، شأن كل من أعدنا قتلهم كي نقايض كتبهم وأشعارهم وأقلامهم بمساحيق تجميل هي في حقيقتها للتقبيح، ولو اتسع لنا المقام هنا لسردنا قائمة من هؤلاء الذين عانوا من النكران بدلا من العرفان وتحولت عظامهم إلى نايات شجية لا تكف عن الأنين.
آه ما أطيب العيش لو أن الفتى حجر، لكن تميم بن مقبل لم يكن قد قرأ الفيزياء ليدرك أن عوامل التعرية لن تجعل الحوادث تنبو عنه وهو ملموم، ولم يكن قد شهد الجدل الصاخب بين حجر مقدس وآخر مُدنس في ثقافة علقت بها الوثنية حتى الألفية الثالثة.
ما ردده الملايين من شعر الشابي ليس أفضله أو أجمله، لكنه أيسره وأقربه إلى الهتاف، فالتونسي الجريح الذي قال لتونس الجميلة إنه غرق ليلجّ الهوى، وإن شرعته الحب العميق كان يدرك أن دماء العشاق دوما مُباحة، وكذلك مهودهم ولحودهم أيضا. فالحياة والموت جملة من مبتدأ وخبر، مبتدأها مهد وخبرها لحد، وما بينهما أقل من ثانية بمقياس نورس وأكثر من دهر بمقياس سلحفاة قُلبت على ظهرها.
لو أن الفتى حجر، كما قال ابن مقبل أو شجرة كما قال البير كامو أو بقرة كما قال والت ويتمان لأراح واستراح، لأنه عندئذ سيعيش من دون أن يسأل عن علّة وجوده في هذا الكون وسيموت فقط عندما يمــــــوت، لكن ابن مقـــــــبل والشابي وسائر السلالة ليسوا حجارة حتى لو كانت كريمة، إنهم ذروة ما أنجزه الآدمي بعد كدح طويل ليغادر الكهف، ويؤتمن على مريض ينام بجواره.
الشابي الشاب ابن الثالثة والعشرين قرنا حسب تقاويم غير زمنية تقمّص بروميثيوس عندما وقف على سطح بيته ليقول بأنه سيعيش رغم الداء والأعداء، ورغم الدهماء أيضا الذين يراهـــــم من مرتفعه حيث يحف به حارسان هما الشمس والقــــمر، إن من قال إذا الشعب يوما أراد الحياة ، قال أيضا أن من جاش بالحب المقدس قلبه لا يحفل بحجارة الدهماء.
إنهما إذن وجهان للشاعر والتاريخ والوجود برمّته، وتلك هي جدلية العابر والأبدي، والغسق والشفق.
المسألة أبعد من نوستالجيا أو حنين شجي إلى ما مضى ولن يعود كما قال إدغار ألن بو وهو يصغي إلى نعيق الغراب، فنحـــــن أحفـــاد لمن لا نستأهل ميراثهم، فلا الحاضر قطعناه ولا الماضي أبقيناه لهذا تصدق علينا صفة المنبتّ نهدم بيت من رددنا نشيده لحظة الاستغاثة بما فاض منه عن الموت ونكافئ سيد درويش بثغاء الخراف ونحوّل داره إلى زريبة.
ما أطيب العيش لو أن الفتى مطر كي لا يتلاشى في رحلة الأبدية بين البحر والسماء، لكن الحجر لم يحسم أمره بعد، هل هو وثن جاهلي أم سلاح مقاومة بيد طفل فلسطيني أم شاهدة ضريح؟ لقد اختلط الأمر علينا بعد أن فقأ العميان عيني زرقاء اليمامة، وبعد أن اعتذر الغزال للضّبع لأنه أنهكه وهو يعدو وراءه.
هي لحظة تشبه الصفر الذي مهما كبر يبقى صفرا ومهما أضيف إلى يسار الرقم يبقى عدما، فأي اعتذار يليق بالشابي ودرويش وسائر السلالة، هل هو دمعة تمساح تذرف لتسهيل هضم الفريسة؟ أم قرار استقالة من الكتابة برمتها بعد أن أصبحت سيرة ذاتية للجهل المدجج بالخرافة والسواطير.
لو كان الفتى حجرا لاختار أن يكون في جدار معبد أو نصب حرية وليس في جدار سجن أو مبغى، ولو كان جذع شجرة لاختار أن يكون مهدا وليس تابوتا وقيثارة وليس كعب بندقية، لكن الأمر ليس بيدنا، فقدرنا أن نكون بشرا لا أو شجرا، لهذا اخترعنا فقها لا يعرفه حتى الجماد وهو فقه الخذلان والخيانة. ننفرد بأكل موتانا، وقضم أثداء امهاتنا وإتقان الكذب الذي حاولت الحرباء إتقانه ولم تفلح.
فأي اعتذار يليق بهؤلاء الذين لولاهم لبقينا ننسج الخرافات عن أشباح العتمة في ليل أبدي؟
_________
القدس العربي*