القنطرة بعيدة

خاص- ثقافات

*حازم شحادة 

قبلَ خمسة عشر عاماً، لم يكُ الصيفُ قاسياً كمَا هو الحالُ عليهِ هذهِ الأيام.
الاعتقادُ السائدُ أن الاحتباسَ الحراري هو السبب.
أنا لا أعتقدُ ذلك.
أحسبُ أنها طريقة الطبيعةِ في التعبيرِ عن غيظها من أفعالنا الشنيعة.
قبلَ خمسة عشر عاماً كان طقسي المُفضّل هو.. شواءُ البطاطا.
نجلسُ عزّ الظهيرة في ظلِّ أشجار التين والزيتون أمام منزلنا باللاذقية نستمعُ إلى سعدون الجابر أنا وأخي مجد بينما نحتسي المتة ونُدخّنُ السجائرَ بالسرّ.
نعم..
كانَ الجلوسُ هناكَ بكسلٍ وتأملُ ألسنة اللهبِ بالقربِ من الأعشابِ البرية الصفراء وأصوات (الزكازيك) من أحبِّ الأمورِ إلى قلبي..
ـ شعرك غابة.. شعرك ماي
وجهك جنة.. صوتك ناي
وبيني وبينك.. فرق هواي
وعمر معدّي، وعمر ال جاي
يقولُ صاحب أعذبِ صوتٍ عراقي بينما نشعلُ النار استعداداً لوليمة الشواء .
تصرخُ والدتي شاكية من الدخانِ الذي أحاطَ المنزل بينما نحاولُ مراضاتها من خلال تصوير الوجبة الشهية التي سنُعدُّها بعد قليل.
أصبحت حباتُ البطاطا في قلبِ النار وبالقربِ منها وضعنا أبريق الماء كي نحتسي المتة ريثما تتم عملية الاستواء.
سيجارة الشرق في تلكَ الفترة كانت ثروة بالنسبة لنا.
ننتزعُ غصناً صغيراً يدبُّ الجمرُ في طرفهِ كي نشعلَ به السيجارة وبعد الانتهاء منها كان هذا ما يحدثُ أغلب المرات.
أقولُ:

ـ قم يا حبيبي مجد وأحضر سيخ اللحمة كي أحركَ الجمرات.
أخي الصغير مجد لا يتجاوز طوله الـ 195سم وبمعنى آخر..
هو أطول مني بعشرين سنتمتر وتلبية الطلبات التي أصدرها بالنسبة إليه عملٌ غير منطقي لذا كان جوابه دائماً:
ـ قم وأحضر سيخَ اللحمةِ  بنفسك.. ما الذي ينقصك؟
ثمّ.. ما إصراركَ على تسميتهِ بسيخِ اللحمة.. بينما لا توجدُ لحمة.
هو يكونُ كذلك فقط عند استخدامهِ لشواءِ ذلك المنتج الحيواني، أمّا عند استخدامهِ لتحريكِ جمراتِ النار وانتشالِ حبات البطاطا فهو مجرّد سيخ.
توشكُ وجبتنا أن تكونَ جاهزة فنضعُ إلى جوارِ البطاطا فحولَ البصل وحبات البندورة ثم نجلسُ من جديدٍ لمراقبة اللهبِ وشربِ المتة وتدخينِ سجائر الشرق و يقولُ سعدونُ الجميل..
تَعبنِي يا قلب.. تَعبنِي مشيَ الدرب
والشوق هزّ القلب.. والقنطره بعيده

من المنزلِ يأتي نداءُ الجياع المنتظرين وجبة الشواء..
نبعدُ الجمراتِ عن البطاطا والبصل ثم نسحب حبات البندورة من (السيخ)..
البصلُ المشوي في صحنٍ وحده..
البطاطا المشوية في صحنٍ وحدها..
نقومُ بهرسها جيداً ثم نغرقها بزيتِ الزيتونِ مع رشاتٍ من الملحِ .
بعد ذلك..
تبدأ معركة.. صراع الوجود، والبقاء للأقوى.
حتى أبي وأمي كانا من جنودِ هذه المعركة وكما كانت قلوبنا أخوتي وأنا كان قلباهما..
بلا شفقة، بلا رحمة.
****
عندما كانَ عددُ أشجارِ الزيتون أكثرَ من عددِ المنازلِ في بسنادا كانَ للحياةِ طعم.
هذا الطقسُ الذي حدثتكم عنه أحرصُ خلال إجازتي إلى سوريا أن أقومَ به مع أهلي لكن..
أشياءٌ كثيرة تغيرت خلالَ هذي السنين..
منها ما يُقال، معظمها لا يُقال لكمِّ البؤسِ فيه..
سوريا بأسرها تغيرت أيها الأصدقاء لكن..  ليسَ للأفضلِ بالتأكيد.

ـ  وأمشي وأقول وصلت..
والقنطرة بعيدة

____
*شاعر وكاتب قصة قصيرة من سوريا

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *