د. هداية مرزق*
( ثقافات )
ما قبل القراءة :
يحقق الاحتكاك بالنص، والاحتكام الى عناصره الجمالية، وقراءتها قراءة متأملة وجود النص والقارئ في الآن نفسه، النص من حيث هو فعالية وجود وعلاقات ودلالات وتشكيل معرفي وجمالي، والقراءة من حيث هي فعالية أساسية لوجود الأدب، من هذا المنظور لا يمكننا تناول نص إبداعي بعيدا عن مراودة اللغة كسلطة تعبيرية وجمالية لا تتشكل الدلالات بعيدا عنها، وبما أن النص الشعري المعاصر يقوم أساسا على اللغة التي تتجاوز نفسها لتخلق عالما جماليا له كيانه الخاص، ووجوده المتمرد على أعراف اللغة العادية، محلقة في مساحات جمالية ودلالية من حيث هو ” نسق ممتع ولطيف يهز مشاعر القارئ، ويصقل ذوقه المتصل اتصالا وثيقا بإحساسه الجمالي ” لتجسد أعلى سلطة لغوية، بدءا من العنوان كبنية نصية صغرى لها خصوصياتها وفعاليتها كمواز نصي يفرض ذاته على القارئ من أول لقاء له بالنص، في مقابل النص كبنية نصية كبرى تتشكل فنيا لترسم لوحات ذات حمولة لغوية متدفقة تجذب القارئ وتفتح شهيته على القراءة، وتطرح أمامه أسئلة تحاول القراءة في العمق الإجابة عنها، وسبر أغوارها العميقة…
من هنا كانت قراءة قصائد ديوان رشيد أمديون المعنون (همسات الروح والخاطر) بكل ما ينطوي عليه العنوان من أحاسيس وأفكار، مغامرة في نص يتمنع على القارئ حينا، ويراوغه حينا آخر؛ عنوان يمتد بحمولته الجمالية والدلالية عبر
عناوين الديوان ككل، وينتشر داخلها مخلفا إيقاعا نفسيا جميلا يستهوي القارئ بنفحاته الصوفية، وتهويماته الوجودية، وتجربته العشقية.
فالعنوان هو العتبة النصية الأولى التي يصطدم بها القارئ في أول محاولة له لتفعيل النص، واستنطاق ألفاظه المكونة لسياقه، والحاملة لدلالاته، فإذا هو همسات من الروح والخاطر، جملة اسمية ذات طاقة شعرية معبأة بأحاسيس توزعت على ثلاثة ألفاظ منسجمة انسجاما كليا، محلقة في عوالم من السمو والصفاء والوجد، ما يجعلها منفتحة على النفسي، متفجرة بالأحاسيس المنسابة انسيابا عذبا مع كل همسة من همسات الروح والخاطر، بلغة شعرية تزهر في ثنايا القصائد كلها، تأسر القارئ بعبير حروفها وجمال إيقاعها وحسن سياقها وانسجام تراكيبها، لغة تحمل داخلها أبعاد نفسية وجمالية، لغة نابعة من عمق الذات معبرة عنها، همسات سحرية تتوزع بين كلمات وأسطر القصائد، تلامس الوجدان وتستثير العقل بكل ما تحمله لفظة الهمس التي تصدرت العنوان من دلالات معلنة وغير معلنة، وما تنطوي عليه من قرب من الحبيب، وابتعاد عن الجهر بمكنونات النفس، ليعلن الهمس عن الاقتراب لأنه يحيل على اللاصوت، والسرية التامة، وهذا يتطلب اقترابا بل والتصاقا بالآخر المهموس له، بما ينطوي عليه من الخفاء في إرسال كلمات عذبة تذوب على الشفاه، متناغمة مع ما يبعثه الوجدان من بوح، وهذا ما يتلاءم مع الروح المشاركة للهمس في رقتها وتخفيها لتمر كنسمة عذبة في يوم قائظ. وقد كان بإمكان الشاعر رشيد أمديون أن يكتفي بهاتين اللفظتين المشحونتين بدلالات النفسي والوجداني والوجد الصوفي، إلا أنه وتأكيدا منه على تفجر الإحساس وفيض المشاعر يربطهما بالخاطر وما يمثله من معاني العفوية والإحساس الجميل، عندما يصطدم بواقع أو موقف أو حالة شعوريّة أو نفسيّة تنساب الكلمات المعبرة عنها انسيابا تلقائيا، ما يجعل جملة العنوان بركائزها الثلاثة تعبر عن حالة نفسية ووجدانية؛ فكل لفظة فيها ركيزة من ركائز الديوان، ولبنة من لبنات بناء قصائده، مولدة لشحنات عاطفية تربط بين قصائد الديوان كلها، فكان العنوان بتكثيفه اللغوي ومضة مدهشة تبعث المتعة في القارئ بما تقوم عليه من إيقاع صوتي كالهسيس في رقته وتخفيه، وامتداده عبر الروح والخاطر.
وإذا كان التشكيل اللغوي للعنوان يعتبر أول مؤشر دلالي في الديوان؛ فإن قصائده الأولى لا تقل أهمية بما تحمل إلينا من صوت الذات الشاعرة، وما تنطوي عليه من أنات تخفيها أصوات الماضي الجميل. لتبدو الذات حائرة متقطعة الأوصال بين الماضي والحاضر، بين الذكرى والواقع بين ما كان وما هو كائن، بين الوصال والقطع، الحضور والغياب ليتجه أفق توقع القارئ إلى أول نص بعد عتبة العنوان متتبعا سيرورة الذات من خلال قصائد الديوان ككل؛ والتي لا تبتعد عن الذاتي والوجداني إلا ” لتتآلف كلها في مجرى النهر الذي اختطه منذ البداية”، بعيدا عن الغرابة اللفظية، أو التقريرية والمباشرة، وبما أن القصيدة العربية المعاصرة حاضنة لتجربة العصر، يتمثل من خلالها الشاعر تجربته في عالم مليء بالمتناقضات، تشكله اللغة الشعرية في قالب فني يسعى الشاعر من خلاله إلى بلوغ أعلى مرتبة تعبيرية ممكنة، تصل اللغة فيها إلى أقصى درجات كفاءتها الإنتاجية لتعكس وعيا كتابيا وثقافيا يتيح للشاعر التعبير عما يشغل باله عبر مساحات أكبر.
ومن هنا فإن القارئ لديوان (همسات الروح والخاطر) يلاحظ التنوع في قصائد الديوان بين القصيدة الطويلة والقصيدة الومضة، التي تقوم على التكثيف اللغوي مفتتحا فضاءه الشعري بقصيدة ومضة ينقل للقارئ أول إحساس وتعالق بين الخاطر/ الذات، والروح/الحبيبة في قوله:
سرب الهوى بخاطري عبر
أثر هنا، وهناك أثر
كأن سرب الهوى في خاطرها عبر
أثر هنا، وهناك لا أثر
كعتبة استهلالية يستهل بها قصائد ديوانه، من حيث هي عنصر جذب وإغراء للقارئ، تتمركز هذه اللقطة في بداية الديوان “لترسم صورة سيميائية تجسد العلاقة الزمنية الابتدائية”، للأنا السابحة في عالم الهوى، وهي إذ تتمركز في بداية الديوان كأول لفظة؛ تؤسس لعالم الذات في ما يليها من قصائد تسيطر فيها الأنا على ما يتبعها من مكونات نصية تسهم في تشكيل القصيدة، ولا شك في أنّ عتبة العنوان الرئيس (همسات الروح والخاطر) قد احتلت مساحة من الذاكرة لتنفتح على عالم الجمال الروحي القابع داخل الإحساس وهو ما ينعكس على أول نص من نصوص الديوان، الذي يبدو مشحونا بدلالات نفسية عبرت عنها اللغة المحملة بآلام الذات الشاعرة ومعاناتها، وهو ما نجده في قوله:
وهتفت الدنيا بنا
وغنت لنا لحن السرور
وعشنا في ورودها عبيرا
شذا…
تحكي عنه الفراشات في حبور
وكنت
فكان العمر بزينة الحب يتحلى
يطيب اللقاء بجوار السواقي
فيطربنا خرير الماء العذب
ليحتل المكان صدارة العنوان، عنصرا محفزا قام على “كثافة وجدانية وترميز عاطفي عال بوصفه مرتكزا أصيلا ترعاه الذاكرة رعاية خاصة” ، وهكذا تكون الانطلاقة من داخل الذات في ذكرياتها الربيعية الجميلة التي تعبر عن الصفاء النفسي، لكن الزمن المؤسس لهذه اللحظة انبنى على الماضي من حيث هو زمن مسترجع (عشنا في ورودها عبيرا)، ولا تبتعد القصيدة الثانية ( ارضاء)عن الذات إلا لتقترب منها، لتشكل القصائد الأولى من الديوان سيمفونية منسجمة تعزف أنغام الحب الجميل، حين “تنبري أنا الراوي الشعرية لتقود حركة السرد الشعري وتسير مسافات داخل فعالية سيرذاتية”، وإذا بكل قصيدة هي جزء من علاقة متنامية نحو المجهول يقول:
لا تغضبي لا تعتبي
حبنا ملء المشرق والمغرب
هاتي كفك وعينك اغمضي
واسمعي للهوى لحنك واطربي
اتخذي الصمت لغة
فبلاغته تذهب العقل
والصمت في شرع الهوى مذهبي
لتتمركز أنا الشاعر في صمت وتلتف على ذاتها منفتحة بالقدر الذي تحكي من خلاله سيرتها، وتموقعها في مقابل الذات الحبيبة، انطلاقا من رؤية واقعية مشحونة برؤية تخييلية، ترتفع بالنص عاكسة إحساسا عاليا وعميقا مشحونا بحب كبير، يلخصه عنوان القصيدة الرابعة (لأنك حبيبتي) التي تنتمي إلى مجال القصيدة الحكاية من جهة، بما تحمله من بوح والقصيدة الومضة من جهة أخرى بما تقوم عليه من تكثيف لغوي وصوري، تنتقل من خلاله الذات الشاعرة في رحلة حب لا تنتهي، إلى فضاء الخيال الجامح لتصبح الحبيبة/القصيدة/الكلمة وسيلة العبور من الظلمة إلى النور، من الفكر إلى خارج الفكر، من الغياب إلى الحضور فيقول:
ولأنك قمر
استعرتك لأجتاز ظلمة الليل.
ولأنك وردة
نابتة وسط حديقة المدينة
فإني أمرّ حِذاءك كل صباح
أشم النسيم
وأحيِّ الندى
في سرد استهلالي يضع خطاب البوح في حالة تأهب ذهني تحمله اللفظة الأولى (ولأنك) الموصولة بالواو الدالة على الحذف قبلها، وبهذا تكتسب الأنا الشاعرة أهميتها وتموقعها داخل النص عندما ترسم العلاقات بين الأنا الساردة والحبيبة المخاطبة، وهذا ما يجعلنا نتوقف عند أهمية هذا الشكل من القصائد السيرذاتية التي تحيل على نموذج شعري يمكن أن يعرف بـأنه “قول شعري ذو نزعة سردية يسجل فيها الشاعر شكلا من أشكال سيرته الذاتية، تظهر فيه الذات الشعرية الساردة بضميرها الأول متمركزة حول محورها الأنوي، ومعبرة عن حوادثها وحكاياتها عبر أمكنة وأزمنة وتسميات لها حضورها الواقعي خارج ميدان المتخيل الشعري”، وبهذا تتنوع النصوص عند رشيد أمديون وتتشكل تشكلا جماليا يلائم الحالة المعبر عنها، لنجده يزاوج بين القصيدة الومضة وقصيدة النثر في عدة حالات، وكأن الشاعر كلما علا عنده الحس الشعوري لجأ إلى السرعة والإيجاز والتكثيف الملخص للحالة النفسية مثلما نلاحظه في قصيدة (لك ولي):
لك الحسن من وجهك أمطر
ولي وغز العتاب
لك الوسن يغري مقلتيك
ولي هجمة السهاد
لك الصفاء والصحو أقبلا
ولي السماء غيم وضباب
ومما قام عليه العنوان من تقابل بين الأنا والهي يتوقع القارئ تقابلا قائما على المشاركة على اعتبار أن لفظتي العنوان معطوفتين على بعضهما، ليجد أن الواو الرابطة بينهما تقطع حبل التواصل لتخلق نوعا من اللاتواصل المقصود، معبرة عن عذاب الصد والهجران (لك الوسن يغري مقلتيك، ولي هجمة السهاد) لتتحول لغة الخطاب من التعبير عن حاضر العلاقة إلى ماضيها وكأن جسور التواصل قد انقطعت أسبابها بين الحبيبين، فاستعاض الشاعر عن أفعال الحضور بأفعال الماضي ومنها (كنت) الدالة على ماضي العلاقة، ليزداد وجود الأفعال الماضية أمام تراجع أفعال المضارع الدالة على الحاضر والممتدة نحو المستقبل.
وإذا ما انتقلنا إلى الجزء الثاني من الديوان، وابتداء من قصيدة (ما كنت شيئا) ينتقل بنا الشاعر إلى أجواء جديدة من وحي النص الشعري الصوفي، نص بروح جديدة متجددة، ونزعة صوفية تمليها الكتابة الذاتية الجانحة نحو الوجد بلغة شعرية لا تختلف عن لغة القصائد الأولى في ذاتيتها، لكنها تقوم على استراتيجية تجنح إلى التصوف، استراتيجية جديدة في الكتابة لا تبتعد عن الذاتي إلّا لترتمي في أحضانه مؤسسة لتجربة عشقية جديدة، تجيب عن أسئلة الروح في حيرتها يقول:
ما كنت شيئا قبل أن أراك
رجلا صرت
وادعيت أنك قيس بهواك
أعدمت القلب
وقلت في الحب ما لم يقل سواك
أسعدت كل النساء همسا
وعدت عابسا
ألا خاب مسعاك
ليحيل السطر الأول على حس وجودي تصبح معه القصيدة وليدة تجربة وجودية ومعرفية متسامية (ما كنت شيئا) رؤيا تأملية في الوجود قال عنها أدونيس “الشعر في التجربة الصوفية لم يعد أدبا بالمعنى المصطلح عليه، وإنما أصبح تساؤلا حول جوهر الإنسان والوجود” وهذا ما نجده في قصيدة (موطن في البال) حين يقول:
تحت مظلته الزرقاء
المعانقة سحبا بيضاء كالرؤى
المانحة شمس أيام
تشبث القلب بها
هناك
أحلامنا كانت
وأمانينا تزهر
كنا نرسل أصواتنا مع نسمات الصباح العتيق…
ليحل في الطبيعة وتحل فيه في رحلة بحث عن الذات، وشوق عارم إلى التوحد مع الوجود، وانسجام مع تدفق الذات الشاعرة وما تحمله من رؤى وتطلعات، وما توقعه من شوق إلى الزمن الجميل، زمن الوصل الذي يقول فيه:
وتمنيت الوصل
وهوى المسهد في المضجع
فبات الشوق ينخر صدري
يا زمان اللقاء هلا أعدت لي مجدي
هلا أعدت لي عيونا
كانت لجة
أبحر فيها وحدي
حيث يمزج الشاعر بين ذاته في سهادها وآلامها، ماضيها وحاضرها، متمنيا العودة إلى الأصل (تمنيت) (انكشف غيم الذكرى) (هلّا أعدت لي مجدي) (كانت لجة أبحر فيها وحدي) وغيرها من العبارات التي تحيل على ذات باحثة عن وجودها في نص يكشف لنا عن تجربة وجودية تتفاعل مع خصائص الصوفية المتمثلة في معانقة الوجود…
وتتبدى الوجودية أكثر في قصيدته (تحدث المعنى)، حين يضعنا الشاعر أمام حالة تأهب وبحث عن الذات، عبر التداعي الحر المنساب بين أسطر القصيدة، ومن خلال كلماتها التي تصب كلها في الحيرة والتساؤل، ممتزجة بشعرية صوفية إذ يقول:
أنا، من أنا؟
أنا البشارة الشاردة
ألقاها نبي، فمات.
بعثت في زمن الإشارة
ودربي انبت الخطى
إيقاعي تفرد به السكر عزفا،
جئت إلى زمن المجاز
ممتطيا أمل الحياة
على صهوته قلت:
أنا من أنا؟؟
فحين يبدأ الشاعر نصه بالسؤال أنا من أنا؟؟ مبديا حيرته، “مفسحا المجال أمام الذات في ظهورها، واختراقها للخطاب” ، لتتبدى مترددة بين الوجود واللاوجود، بين الشك واليقين (أنا البشارة الشاردة ألقاها نبي، فمات)، (جئت إلى زمن المجاز ممتطيا أمل الحياة)، وغيرها من العبارات الدالة على الحيرة / الشرود/ البحث عن الوجود/الضعف، التصوف الذي نجده في قوله: (أتجرد من كينونتي كي اختم نهايته بطيف السعادة المثالية):
أنا خامل في شرنقة وجودي
وقد صيرت نفسي تحت أرض منسية
لا أمل فيها للزرّاع
أعيش سرّا بين جناحي الحكاية
أدمن متعة الاختفاء
أعبر جسر الخيال إلى العوالم الصامتة
كأنه اصطفاء من يد الغيب
ليظل الشاعر عازفا على قيثارة الغيب والشرود، الضياع والتشرنق، الحضور والاختفاء، غريبا، نموذجا لشخص زاهد في الحياة (أعيش سرا بين جناحي الحكاية)، بعيدا عن ضوضاء الواقع بضجيجه مستأنسا بوحدته (أعبر جسر الخيال إلى العوالم الصامتة) ليخلو إلى نفسه في عالمها الخاص الذي يجد فيه راحته في أجواء من التوحد والعزلة والتصوف يقول:
فحذارك تظن
أن السماء والشمس والبحر لا لغة لها؟؟
فأنا من سمعها يوم قيل لي كن
فكنت…
لتنطبع كل قصائد الديوان بالطابع الذاتي، والتفاعل مع الوجود، لتجاوز الواقع البائس إلى الواقع الأمثل، وليتم التفاعل بين الوجودي والذاتي والصوفي في انسجام وحلول وتوحد تحيل كلها على أن الشاعر يعيش لحظات وجودية، وتجليات صوفية تختلط فيها مشاعر المتصوف بمشاعر الوجودي بلحظات الوجد، والهروب نحو واقع الكتابة/الشعر فيتفاعل التخييلي/الذاتي، مع الوجودي ليمتزج بالحس الصوفي؛ يقول في قصيدة تجليات:
من ذاك الذي طاق من اليوم زواله؟
وحين غربت شمس الأصيل
ناولني سؤاله:
” أملاك أنت؟
أم أن عيني لم تر من
هذا الجمال أمثاله”
إلى قصيدة (مقام الرؤيا والمخاطبة) والتي يتقاطع فيها مع رباعيات الخيام، التي يستعير منها مطلعها: سمعت صوتا هاتفا في السحر… وما تنطوي عليه من عشق إلهي وتوحد صوفي جميل، تتداخل فيها الذات الشاعرة باسمها (رشيد) مع النبي موسى في قوله:
سمعت صوتا هاتفا
ينادي
«يا رشيد، اخلع حيرتك.
إنك بوادي التلقي»
فأوجست خيفة…
ارتجفت.
قال:
! « لا تخف، أنا صوت القصيد
وما ذاك بيمينك ؟»
قلت: هو قلمي
أخط به زفراتي
أُسكِب مداده أهاتي
أخشى من شروده
لهب سلطاني
قال: « ألقه يا رشيد»
فألقيته فإذا المعاني تسعى..
إلى اخر القصيدة التي استثمرت النص الديني في حالة من التوحد بين الذات الشاعرة، وشخصية النبي موسى المستدعى من خلال الحوار الذي أورده الشاعر مع إحداث تغيير وتحوير عليه وفق قانون التحوير في التناص، لتسكن القصيدة ذات الشاعر وتكشف عن حب وتوحد يكشف عما “يشبه اتحادا أو حلولا صوفيا لهذه القصيدة، وتمركزها في ذات الشاعر، فتصبح هي المتكلم عنه” تلبي دعوة الداعي والمنادي إلى الكتابة، وهو في كل هذا يعبر عن ذاته في حيرته وسؤاله من خلال شخصية النبي موسى في حيرته أمام الخالق الذي ناداه، في ضعفه أمام الوجود الإلهي في قوله تعالى: “واخلع نعليك إنك بالواد المقدس طوى”، ولما سمع صوت ربه وهو كليم الله ارتجف وخر ساجدا… والشاعر إذ يستدعي هذا النص الديني فلأنه أراد أن يضع القارئ أمام تعلقه بالكتابة، وهي جزء لا يتجزأ من كيانه، بل هي عطاء رباني وإلهام، ليتداخل النص الديني مع النص الشعري، ويحل الشاعر في ذات النبي متفاعلا، متأملا، متمسكا بفعل الكتابة كمتنفس لا بد منه للشاعر حين يقول:
لا تخف أنا صوت القصيد
وما ذاك بيمينك
قلت: هو قلمي
أخط به زفراتي
فتنبثق الكتابة الشعرية من داخل الذات مستعينة بالتناص استراتيجية جمالية تمنح القصيدة بعديها الجمالي والدلالي، ولتعبر عن قدرة الشاعر في استثمار النص الديني استثمارا فنيا جماليا وفق قانون التحوير، فنجده يبدأ القصيدة موهما القارئ باستحضار النص القرآني من خلال حصر النص بين مزدوجتين تدلان على الاقتباس، ليدهشه وقد ادخل تغييرا وتحويرا ليستبدل العصا بالقلم، والهش بالخط، وغيرها من التغييرات التي تخرج النص من سياقه الأول/ الديني، إلى سياقه الثاني /الشعري…
فالقصيدة بعنوانها (تجليات) تحيل على الوجد الصوفي وموضوعه القصيدة، وعشق الشاعر للكلمة/الكتابة، وهو يعيش حالة متميزة بين الصحو والإغفاء، حالة من الزهد والتجلي النصي الذي يملأ الديوان ويتسرب بين سطور قصائده…. هذا هو بإيجاز رشيد أمديون الشاعر مثلما تحيل عليه قصائد ديوانه (همسات الروح والخاطر)، ديوان تتنوع فيه القصائد وتتشكل تشكيلا جماليا خاصا، يطبعها الذاتي المفعم وجدا، والوجودي المملوء حيرة، والصوفي المتسامي عشقا إلاهيا.
_________
* جامعة سطيف2 – الجزائر