عمّان في دفتر العشق

خاص- ثقافات

*يوسف غيشان

عمّان فجرًا  

المدينة لي ، المدينة لي ، أنا الأعرابي المنبلج من فسيفساء الجنوب.

المدينة لي ، أنا الريفي المنهمر إلى العاصمة ، أسعى في مناكبها.

المدينة لي ، أنا المدني المتلمظ بطعم ” المخيض” حتى وأنا ازدرد ” الكابتشينو ” في مقهى مكتظ بكائنات ، ينبغي أن تكون فذّ العبقرية ، حتى تكشف الفروقات  الجوهرية بين الجنسين.

الشمس تكتشف عريها رويداً رويداً ، فتدب الحركة في قلب المدينة خبباً خبباً… سلاطين الأرصفة ( يدوزنون ) حناجرهم ، باعة القهوة ( السادة ) ينفخون رماد جمر الليلة الفائتة تحت عطر ( الهيل ) ، فينهمر الشرر إلى الأعلى ، وتندفع رائحة القهوة الممزوجة بدخان الفحم  الفائق   من النوم للتو في سيمفونية عطرية لا يدركها إلا الفقراء والضالعون في الصعلكة !.

نحن بضع عشرات ، (سٌرة ) المدينة ملكنا… عجوز يتمطى على درجات ” مجمع رغدان ” بعد أن قضى الليلة المنصرمة على كرتونة مارلبورو وملتحفاً السماء…. طفلة على أهبة التسول تفرك عينيها لتعتاد الوهج… أترنح في الشارع ، لا أحد يزاحمني ، أمشي  ” الهوينى ” فالفجر أجمل من أن أهبه لرب العمل ، ولكن !! للضرورة أحكام ، والعصفور المبكر يجد الدودة اولاً ، إنما لا بأس بحفنة من التسكّع قبل أن ألج باب ” الجلجلة “!.

المدينة تحرمك من لذة أن تضيع ، فأينما أدرت ” رسنك ” ، ستجد نفسك ، في النهاية تصبّ في صحن الجامع الحسيني… المدينة دائرة كحبل المشنقة وكطوق من الياسمين في الوقت ذاته ، إنها مدينة الدكتور ” جايكل “… إنها مدينة المستر ” هايد “… إنها لعبة التناقضات المتفقة ، إنها الوضع المؤقت الذي يعيش باستمرار ، إنها المدينة الوحيدة في العالم التي ( سقفت ) نهرها، فانبثق من العدم ما يسمى بـ ” سقف السيل “.

إنك لا تغطس في مياه النهر الواحد مرتين ، لأن مياه جديدة تجري باستمرار ، كذلك في سقف السيل ، نادراً ما تقابل الشخص نفسه مرة أخرى ، وينطبق هذا على بائع السوس ، وتاجر الخردوات والطابور الواقف بانتظار الباص والسابلة ! لكأنك تدخل مدينة جديدة في كل مرة ( تتبختر ) فيها بالسيل المسقوف…. سقف السيل ، مشروع حياة ملأى بالتناقضات المتفقة ، الأوغاد والقديسون لا فرق بينهم. إلا فيما يبيعون ( مال حلال أم مسروقات ) !!… هنا نبض الحياة الحقيقي… هنا ترى الرذيلة ليست نقيضاً للفضيلة ، بل وجهاً مكملاً لها… هنا الألف ، هنا ” الياء ” !

والشمس آه من الشمس ، إنها تشرق على القتلة وعلى الضحايا معاً ، كذلك على الأبرار والأشرار…. الشمس هي الكائن الوحيد العادلُ ، مطلق العدالة ، في هذا الكون.

عمّان صباحاً

بُغتةً ، وبلا مقدمات ، تنبجس الشمسُ ، فيصيح الديك صيحته الثالثة، وتنهمر الشمس ألقاً من الفضة ، وينبثق الناس كبركان إلى جوف المدينة ، ثم تصعد حممه إلى الأعلى في فعل مضادٍ لكل قوانين الفيزياء.

    تشرق الشمس ، فتتجهم المدينة ، الشوارع تصبح أكثر زحاماً مثل خلية ” دبابير ” ، لا أحد يصطدم بأحد… خليط عجيب لكأنه نغمات سقطت من حقيبة فنان مجنون ، الرجال يجمعهم التجهم وملاحقة أجساد النساء المتطايرة كالدحنون بين أشواك الأرصفة.

النساء…. آه النساء ؛ إنهنّ نسغ الحياة وسائر الأسماء….والدليل الوحيد على أن المدينة تسير إلى الأمام ، فالمجتمع – أي مجتمع – يشترك الرجال فيه بوأد المرأة في صندوق البيت هو المجتمع الآيل للسقوط والمنذور للانقراض ، بينما المجتمع الذي يتساوى فيه النساء والرجال، هو المجتمع المؤهل لخوض معركة الحياة… فالنساء والموقف منهن هو ( باروميتر ) الحضارة.

المدينة ليست حبيبتي ، ( فحبيبتي مادبا ) ، بل هي عشيقتي التي أحبها بالسرّ ، لأن مادبا غيورة جداً !.

      عشيقتي عمّان التي تحولت من قرية كبيرة إلى مدينة كبرى… إذا أردت ان تقطع الشارع فيها ينبغي ان تكون قد ولدت على الجانب الأخر منه ( مبالغة ، أعرف ) ، مدينة يجتمع فيها المسيح ويهوذا الاسخريوطي على مادة ( أبو موسى ) يمصمصون ” المقادم ” ويتناوبون على (الأرجيلة ) في السنترال… ويستدينون الكتب من كشك أبو علي الذي لا (يفُشّل) أحدا.

مدينة يؤمها الأكثر ذكاء والأكثر فقراً…. الأول يتسلق السلم الاجتماعي مع ما في ذلك من خطورة ، والثاني ينضم إلى جوقة المسحوقين إلى الأبد الضائعين في البرزخ الفاصل بين الفقر المدقع والفقر المطلق.

أركب السرفيس ، أنضم إلى الحمم الصاعدة إلى للأعلى ، وأدخل في جوف ( المجلة – العمل )… حيث لا صداقات لا حب ، بل علاقات عمل ، تبدأ بلحظة وتنتهي بلحظة ولا أحد يذكر أحداً بعد ذلك… إذا أردت أن تحافظ على عذريتك الروحية فينبغي أن لا تنضم أبدا إلى مسننات الآلة.. أُغني باستمرار.. أضحك باستمرار… فالغناء والضحك هما حصنُ الروح الأخيرة في مواجهة الاغتراب والخواء المطلق.

عمّان ظهراً

 

تهرب من ضجيج صمت الآلة… إلى ( أسياخ الشاورما ) المغروزة في خاصرة الشميساني… منطقة الشميساني الغربية تماماً حتى عن سكانها….. فتيات لا يعطفن على أحد ، يتسكعن لكأنهن خارجاتٍ من أغلفة المجلات وأفلام الفيديو وجليد ( البريك دانس ) الملتهب ، ثقافتهن الوحيدةُ تقتصر على حساب السعرات الحرارية في قطعة ( البفتيك… )… شحاذون رماهم الزحام في وسط البلد… الشحاذون في الشميساني يحتاجون إلى وثيقة يبرزونها للسابلة تؤكد عوزهم المطلق.

تتسكع  بلا جدوى غريبا، وتعود إلى ضجيج الآلة غريباً. يصيبك الخدر. فتنام على سعال كمبيوتر الإخراج…. وتصحو على رنين الهاتف الذي يدعوك لأن تظل قيد الصحو إلى الأبد.

الحد الفاصل بين الحلم واليقظة غير واضح الملامح ، تصحو أو تنام – لا فرق – على دوي السيارات وزوامير سيارات الإسعاف ، تحلم بغابة أنت ملكها ولا تقطنها سوى النساء ، إنه ( الكبت التاريخي إياه ) وتصحو على سعال زميلك في الغرفة ، فتمسك القلم… وتنضم إلى قطيع الآلة الذي يرعى في سهوب الكلمات.

 

عمّان عصرا

ترضخ الحمم لقوانين الفيزياء فتعود إلى جوف المدينة متعبة ومغموسة بالقنوط. الغروب في عمّان كالشروق إلا أنه أكثر احمراراً… وحش السرفيس يبتلعنا خمسة خمسة على الدور ، السواقون أكثر قنوطاً من الجميع لكنهم يستمعون إلى الأغاني والطقاطيق المفرحة من مسجل مُخبأ في صندوق السيارة ، بلحىً غير محلوقة ووجوه لا تكاد تشبه تلك الصورة المثبتة على لوحة السيارة… يا الله كم تفعل لقمة العيش بنا !.

     تفاجئك المدينة بأنها أكثر ( زحاماً ) ، الناس يتصادمون بلا اهتمام ويدخلون في لعبة القط والفأر مع الباعة ، مسرحية يتكرر عرضها يومياً مئات المرات ويشارك فيها الجميع ولا يشاهدها احد ولا يسألها أحد… غريب هذا الإنسان… الذي لا يسأل عن الجمل ويحاسب على البعوضة. لو حددنا الأسعار فلن يرضى التاجر ولن يرضى المواطن… ( فالمساعرة ) هي لعبة التسلية شبه الوحيدة للجميع. يتقنها الجميع – عداي ربما – وتستمر بتواطؤ من الجميع. لا يخلو الأمر طبعاً ، من عاشقين يقتنصان الزحام ، يدخلان إلى مطعم في الساحة الهاشمية ، ويدفعان بخشيشاً للجرسون أعلى من ثمن فنجاني القهوة.

عمّان ليلاً

 

المدينة متعبة مثلنا…. تبدأ الحمم بمعاكسة قوانين الفيزياء.. الباعة يتصيدون ( الزبون ) الأخير ويتساهلون في السعر. سلاطين الرصيف يلملمون بضاعتهم في ( كراتين ) ضخمة ، بينما تئن جيوبهم تحت ضغط النقود المعدنية متعددة الإحجام ، مع صرير الأبواب الحرارة لدكاكين كانت ذات نهار آهلةٌ بالأحياء.

بعد التاسعة بقليل تصمت المدينة فجأة ويغلق باقي التجار أفواههم المعدنية بانضباط عسكري فذ. ولا يتبقى من  ضوء ، سوى مصابيح الطرق التي تكسو المدينة بإشعاعات صفراء كالقضبان.

         تخبو المدينة ، تعود الشوارع ملكي ، فانسلُّ في الطرقات الافعوانية ، كيفما اتفق ، لأجد نفسي في مجمع رغدان حيث يحملني الباص من حضن العشيقة إلى ذراعي الحبيبة.

من حضن عمّان التي تصحو مع ( الديوك ) وتنام مع ( الدجاج) ، أخرج في المساء ، لأعود فجراً إلى مدينة تصبح ملكي ، إنا الأعرابي المنبلج من فسيفساء الجنوب ، أنا الذي يعشق حدّ الهوس مدينة بلا قلب.
__________

*كاتب أردني

 

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *