خاص- ثقافات
*رواية : حفيظة قارّة بيبان/ تقديم و نقد : جلّول عزّونة[1]
-
تقديم :
-
هذه الرّواية عن الثّورة التّونسيّة، تتميّز عن غيرها من الروايات التّي ظهرت بتونس هذه الأعوام، بتفرّدها شكلا و مضمونا و تميّزها، إذ هي جمعت أختًا كاتبة مع أخيها الفنّان الرسّام، وتجاوزتْهما لتكون رواية الكتّاب الفنّانين بصفة عامّة، فنحن إزاء حسّ المثقّفين عمومًا, في كلّ صفحة تقريبًا.
إنّ القارئ عاش مع الكتابة:
-
مغامرة إنهاء كتابة روايتها العراء، أوّلاً، إلى حين صدورها وتتويجها بجائزة كومار وتكريم المؤلّفة من طرف رابطة الكتّاب الأحرار.
-
وصدور القرص الممغنط (D.) ثانيًا لقصّتها للأطفال : النجمة مغنّاة، وهي من تلحين عادل بوعلاّق.
-
حضور الفنّ والفنّان بشكل بارز في هذه الرواية.
إنّ الفنّان هو المحور الأساسي في هذا العمل المشترك
-
إنّ الفنّان هنا يقوم بدور النبي، فهو يبشّر وينذر بالخصوص:
“لوحة فنّية صارخة بعمق ليل يراه وينذر به” (ص233).
“أيّ غدٍ منذر مخيف” (ص236).
إنّ الفنّان هنا، مثله مثل الشّابّي في الصباح الجديد: (“شِمْتُ صباحه”)، يستشرف المستقبل وينبّئ به، هو الرّائي، المتسائل: هل هو “الليّل القادم على البلاد، يبتلع الكوكوت والجنود و السّلاح؟” (ص237).
-
و الفنّان هو أيضًا، الأستاذ الموسيقار المبدع والملحّن، عادل بوعلّاق و مجموعته أجراس (من ص346 إلى ص348)، وحلم فنّان مكابر الذّي لم يتوصّل بأيّ دعم مباشر من الدولة (وزارة الثّقافة) والذّي عاش سرقة فضائه الفنّي: إيكار.
إنّ الفنّان، هنا أيضًا، يُشعل “الضوء الأحمر أمام الخطر الدّاهِم” (ص236) أيّ خطر “حكومة الخلافة” واتّهام الفنّانين (حادثة العبدليّة) و نرى حضور الفنّان مارسال خليفة الذّي يتحدّى بالموسيقى كلّ المخاطر (ص 239 وما بعدها) وبها نسمو ونُشفى من أمراضنا كالاكتئاب وغيره…
إنّ حضور الفنّان الساخر، حليم قارة بيبان ومحمله الفنّي: الكوكوت (ص355) منذ الثورة، والتّي داربها العالم، بلدان أوروبّا وأمريكا، يذكّرنا بدون كيشوت وبالعالم السريالي للرسّام Bosch. وهو بهذا يكون نبيّ الأزمنة الحديثة، أزمنة الثورة، مع طرافة وإضافة وإذا بهذه الصّورة الفكهة تواكبنا طوال صفحات الرواية، مع حضور مميّز وطابع خاصّ جدًّا بالوعي “والوعي المدهش والرؤّية الحادّة” (ص356)، وإطلالات مفاجئة ونزقة، لهذا البطل غير المطابق لمواصفات الأبطال الآخرين، والذّي يغيب-ويحضر- في سفرات متتالية ما بين باريس وبرلين وأمريكا وكأنّه يغمز لنا: “اليقظة… اليقظة !!” “Restez vigilants” فكوكوت حليم قارة بيبان تذكّرنا بتلك الأغنية الشعبيّة الطفوليّة: “برمه تغلي بالماء لخضر…” وكأنّه يرمز إلى غَلَيان الشّارع التّونسي وشبابه المتعطّش للكرامة والشغل… والذّي لم ولن يَحْنِي الجباه !!
-
إنّ هذه الرّواية هي رواية الفنّ والكتاب بامتياز، فبابلو نيرودا وطاغور حاضران بامتياز (ص240) والكاتب التّونسي المعاصر: حافظ محفوظ… (ص334)… وأبو القّاسم كرّو (ص330)… ومبروك المنّاعي (ص331) وفاطمة الشّريف (ص328)…
-
ضدّ السّياسة والسّياسيّين… والنّاس أجمعين !!
لا تترك الكّاتبة فرصة إلاّ واستغلّتها ضدّ السّياسة:
“ووجدْت السّياسة فرصتها للانقضاض، مع المندسّين، لتعمّ الفوضى ويتوالى التخريب” (ص336) (عند الحديث عن يوم غضب بنزرت وحرمان فريقها الرّياضي: A.B.، من التتويج !!) والكاتبة ناقمة على الأحزاب وشِعاراتِها و”ضيق أُفُقِها” (ص382-386…) وذلك عند الحديث عن عيد المرأة يوم 13أوت2013 ومسيرة النّساء من باب سعدون إلى باردو باعتصام الرّحيل-ولكن مع هذا فالكّاتبة تُنشّط تظاهرة: لن ننسى (ذكرى قدوم الفلسطينيّين لبنزرت سنة 1982 (ص243 وما بعدها).
وهذا الموقف للكّاتبة يذكّرني بموقف الريبة والشكّ من الأحزاب السّياسيّة عامّة لدى المواطن التّونسي العادي، وذلك لدرجة الوعي المواطني المتدنّي قبل الثورة، والذّي بدأ يرتفع نسبيّا بعدها، وقد تميّز هذا الموقف بالحماس المفرط للثورة، ممّن التحق بها بعد نجاحها، وبالإحباط الكبير والسّريع الذّي ظهر، عند العديد من التّونسيّين إثر تتالي المشاكل وتأخّر الحلول التّي حُلِمَ بها وكأنّ التغيير سيحصل بشكل عجائبي بدون المساهمة فيه ورعايته من أعداء التغيير.
وكأنّي بالكتابة تنسى أنّ الهدف الأساسي من اعتصام الرحيل، ودور الأحزاب فيه، هو فرض رحيل حكومة الترويكا التّي شجّعتْ الاغتيالات السّياسيّة وذبح الجنود في الشّعانبي واعتبرتْ المرأة مكمّلة للرّجل لا مساوية له !! ولنتذكّر هنا الشّعار الشّعبي “المَرا التّونسيّة، مِيشْ مِحِرْزِيّة !”
-
تأرجح ما بين اليأس والأمل !!:
إنّ الرّواية مخترقة طولاً وعرضَا بحساسيّة مفرطة وبانفعالات وتعب جسمي ومرض وهشاشة حاضرة (ص229) ومن هنا جاء هذا التأرجح (Ballotage):
-
ما بين الثّورة ضدّ الفكر السّلفي المتزمّت والمنغلق (ص373 وما بعد) وضدّ الانهيار (“منقّبة تطلب الختان” (ص216)).
-
والموسيقى، عنوان التّفاؤل والأمل، فهذا كورال يغنّي ويرتقي بالإنسان من حيوانيّته (القتل والتكفير)، إلى التفكير (تستشهد الكّاتبة بيوسف الصدّيق وكتابه: هل قرأْنا القرآن؟)
-
إنّ هذه الرّواية-المذكّرات– لكاتبة وأخيها الرسّام الطّوباوي تتأرجح فعلاَ ما بين:
-
ثورة مهدورة ومهدّدة “بِلْحِيّ كثّة… وأعلام سوداء ترفرف في الطّرقات، “بعض العابرات في مثلّث السّواد, لا يُرى منهنّ غير تحديق العيون” (ص340).
-
ويوم فلسطين الاحتفالي مع شباب تَلْمَذي وأساتذة، يُعلنون، بكامل وعي، الأمل والثّبات على مبدإِ استرجاع فلسطين.
-
إنّ الصفحات الأخيرة، لهذه الرّواية-غير النمطيّة- شكلاَ ومحتوى- تبقى متفائلة ومفتوحة على مستقبل مضيء ! وذلك هو دور الكّتابة الأعمق والأبقى.
-
الخاتمة:
إنّ رواية النجمة والكوكوت لحفيظة قارة بيبان، تسجّل بكلّ جرأة موقف الكّاتبة الحضاري، مع الإبداع والفنّ ضدّ ثقافة الكره والقتل والتكفير، إنّها مع دين المحبّة والتّآلف[2] والانحياز القويّ لفلسطين (ص227-350)[3] وضدّ المفهوم المقزّم للدّين والتّسامح، تقول الكّاتبة:
“إذ يتعرّى كلّ شيء معلنًا بشاعة عالم يتاجر بالأجساد والأوطان والدّين، محوّلاً ثورة الشّعوب إلى محرقة.” (ص353).
إنّ موقف الكّاتبة واضح وجليُّ ضدّ “همجيّة الظلاميّين” (ص249) وضدّ “الجهالة والظلاميّة القادمة” (ص327)، وضدّ “خفافيش الظّلام” (ص247).
وتذكّر ببعض الأحداث الرمزيّة مثل:
اعتداء على عرض مسرحي بمنزل بورقيبة .
-
وإيقاف عرض فرقة إيرانيّة بالقيروان وكيف أنّ صحيفة إسرائيلية هي S.News.، هنّأت السلفيّين بعد هجومهم على مهرجان للقدس حضره الأسير الفلسطيني المحرر سمير القنطار
إنّ رواية النجمة والكوكوت، أتتْ، لا فقط لتسجيل مذكّرات كاتبة وفنّان ساخر لأحداث الثورة في تونس، وإنّما لتبقّي الشعلة النقديّة حيّة في قلوب التّونسيّين المتطلّعين دائمًا إلى التجاوز والحلم.
______________
[1] نشر رسلان للطّباعة و النشر-2015-412ص.(من الحجم الكبير) وجاء العنوان الفرعي كما يلي: من يوميّات كاتبة و فنّان: حفيظة و حليم قارة بيبان-تونس-ديسمبر2010-ديسمبر2013.
وقع تقديم هذه الرواية في الإذاعة الثقافيّة بتاريخ 6ماي2016، من العاشرة صباحًا إلى منتصف النّهار-في برنامج: المقهى الثّقافي، تقديم: سفيان العرفاوي، وبحضور الفنّان الموسيقي، عادل بوعلّاق، والرّسامة: سوسن لملوم.
[2] انظر كتاب: الفَكَهُ في الإسلام لليليا العبيدي.
[3] القوى الظّلاميّة تطالب في بنزرت (ص247) برحيل سمير القنطار، عميد الأَسرى الفلسطينيّين: 30 عام في سجون اسرائيل… لأنّه شيعي !!؟؟