تحضر فلسطين اليوم – شخوصاً وأمكنة – في رواية ليانا بدر «الخيمة البيضاء» (نوفل، هاشيت أنطوان) لتعيد تصويب البوصلة نحو قضيةٍ لا تجد من «يرخي لها أذنه مصغياً». ارتأت الكاتبة أن تُكثّف روايتها زمنياً، لتمتد الأحداث على أربع وعشرين ساعة فقط، كمن يُقدّم نموذجاً (عشوائياً) ليوم من يوميات الجحيم الفلسطيني. تختار شخصياتها من الواقع الراهن، ترسم ملامحها بعناية بالغة لتبدو كأنها من لحم ودم.
وعلى رغم تباينها الواضح، تبقى الشخصيات جميعها تائهة بين هويتها الفلسطينية ومصيرها «الإغريقي». وهل تكون الحياة خلف جدار العزل العنصري غير تراجيديا بشرية؟ «مجرّد التفكير في اجتياز الحاجز يبعث الرعب والقشعريرة في جسمها، كلما فكرت في أنها ستعاود الوقوف أمام ذلك الممرّ المصنوع من معدن مشبك، حيث الأجساد يتلاصق بعضها ببعض مرنخةً بعرق الإنزعاج والفزع الخفي» (ص 72).
تعرض بدر انعكاسات التراجيديا الفلسطينية اليومية عبر تتبّع مسارات متوازية لشخصيات تجتمع في معاناتها الدائمة داخل وطنٍ يشعر فيه السكان الأصليون بأنهم غرباء ومنفيون. لكنّ تفاعلهم إزاء هذه «الغربة» تختلف بين واحد وآخر. لكلّ منهم أسلوبه الخاص في التعايش مع أزمته كفلسطيني قابع في أرضه تحت احتلال اسرائيلي مستبدّ. بعضهم يهرب، وبعضهم يتكيّف، فيما يختار بعض آخر منهم أن يواجه، ويتمرّد. ولا نتعرّف إلى شخصيات «الخيمة البيضاء» عبر سرد روائي تقليدي تشدّه حبكة واحدة تتفرّع منها الأحداث، إنما تنسج الكاتبة من تفاصيل الحياة اليومية حكايات تتوزع على فصول يتولّى فيها الراوي العليم (سارد خارجي) تقديم أبطال الرواية- واحداً تلو الآخر، كأننا في معرض (غاليري) الشخصيات.
وفي كلّ مرّة، تُمهد بدر لفصول روايتها بجمل لمحمود درويش، الحاضر في ذاكرة شخوصها من ضمن رموز أخرى راسخة في وجدانهم، إن لم نقل انتمائهم الفلسطيني. «وليس فيها (رام الله) ما يرضي الروح من أشكال نضالنا القديم سوى ضريح القائد الرمز ومتحف محمود درويش» (ص80).
جيل الخيبة
ينطلق الفصل الأوّل مع «مشوار» يمثّل روتيناً في حياة نشيد- الشخصية المحورية- التي تعبر يومياً قرب دوّار «الساعة» إلى منطقة الإرسال عبر المنارة في وسط رام الله. هي تتجول ببصرها أيضاً، فتجرّنا معها إلى اكتشاف المكان بخصوصيته، لننتقل من ثمّ من الخارج (الشارع) إلى الداخل (الأفكار). فالأمّ المتجهة صباحاً إلى طريقها الى مقرّ وظيفتها مأخوذة بالتفكير في ما يحدث «سرّاً» بين ابنها خالد وابنة الجيران التي تشاركه الدراسة في غرفته، فتسيطر عليها فكرة انخراطهما في عمل سياسي. تخاف عليه أن يلاقي مصير خاله وصديقه اللذين حُكم عليهما بالسجن المؤبد في سجون الإحتلال من دون إثباتات وأدلّة. وكالعادة، تتسرب اليها، بعد نوبات التوتر الداخلي، رغبة عارمة في التلذّذ بطعم الحلوى، وحبذا لو كانت «السمسمية» الهشة التي يُعيدها طعمها إلى أيام حلوة من طفولة لن تعود أبداً. ثمّ تغرق في التفكير بمهمة تنتظرها يوم غدٍ، تستدعي انتقالها الى القدس لتحرير «رهينة» حكم عليها أهلها بالموت لأنها تمردت على عادات عشيرتها برفض الزواج من ابن عمها والزواج من «الغريب» الذي اختاره قلبها.
انتقلت نشيد، التي عملت في التنظيم النسائي خلال الإنتفاضة الأولى وتعرّفت الى زوجها، المناضل القديم، قبل أن يستبدل ثوريته بحب التجارة ويعيش في الخليج، من العمل السياسي الى العمل الإجتماعي، فتطوّعت من أجل مساعدة الفتاة التي حملت ذنب «أنوثتها»، فكُتب عليها أن تكون ضحية بين آلاف النساء الواقعات تحت أسر الاحتلال تارة، والعائلة طوراً.
في خطٍ موازٍ، يُقدّم الراوي لقطة من يوم يقضيه عاصي (قبل يوم واحد من دخوله في عامه الستين)، هو الثوري القديم والصحافي المخضرم والمتقاعد حديثاً. يلحظ مرور نشيد في الحيّ، وهو لا يعرف عنها سوى أنها أم خالد، زميل ابنته بيسان التي تدرس معه أحياناً في المنزل. وكل ما سمعه عنها أنها رفضت اللحاق بزوجها، وفضلّت البقاء في فلسطين. فضوله نحوها بلا أسباب واضحة، لكنه يتصّل ربما بظروفهما المتشابهة. هو أيضاً له أولاد خارج فلسطين، وزوجة «غائبة»، وإن كانت تعيش معه تحت سقف واحد. ومثلها، لا يشغله سوى خوفه على ابنته، الطالبة الجامعية.
زوجته، لميس، ليست مسافرة (هاربة) كزوج نشيد، إنما هي امرأة رفضت فكرة المنفى داخل الوطن. فأرادت أن تكرّس حقها في المكان عبر سفرها اليومي إلى بيتها الأول في القدس باستخدام تصريح يُجيز لها دخول القدس الممنوعة عن بقية الفلسطينيين. تغيب من الفجر حتى المغيب بين الباصات والحواجز كي تدخل القدس وتشتم رائحة طفولتها وأهلها وروحها الضائعة. وحين تعود الى منزلها الزوجي ليلاً في رام الله، مغبرة الثياب والوجه، تبدو كمن حقق انتصاراً هائلاً، غير آبهة بحياتها الصغيرة. وعلى رغم مشقة الذهاب والإياب، تبدو لميس كسيزيف الذي طالبنا كامو بأن نتخيله سعيداً وهو يدحرج حجره إلى أعلى. واللافت أنّ نساء ليانا بدر هنّ أكثر صبراً وقوةً ومواجهةً من الرجل. خيباتهنّ لا تودي بهنّ الى العجز والإنعزال، إنما تصير سبباً في دفعهن الى المواجهة والتحدّي، سواء أكان بالغناء (بيسان)، العمل (نشيد)، الحركة (أم بيسان)، التطوّع (ندى)، التجارة (والدة نشيد). وليس عبثاً أن تختار الكاتبة نساء فاعلات في وجه رجال عاجزين، أو هاربين، هي التي تقول في روايتها (على لسان السارد) إنّ المرأة قادرة على التغيير، لكنّ مآلات الإنتفاضة الأولى (فصائل، عشائر) أقعدتها جانباً ليصبح المطبخ مكانها الشرعي الوحيد.
وفي الحديث عن بطلات الرواية، قد يقع القارئ على خطأ- لا يبدو مقصوداً- لكنه أدى الى تشويش القارئ في بداية الرواية، ويتمثّل باستبدال اسم «بيسان» بـ «نشيد» مرتين: «كثيراً ما يحاول لفت نظر نشيد الى الأصوات المعروفة في الطرب العربي فتهز كتفها ولا توليه اهتماماً» (ص 32) و «يعرف أن ابنته نشيد تعرج على بيت هذه السيدة دائماً لتدرس مع ابنها» (ص 43)، «هاتفت بيسان والدها» (ص124).
لعبة المرايا
في تقابل المشهدين المتوازيين بين البطلين (الجارين)- نشيد وعاصي- نشعر بأنّ ثمة لعبة مرايا أقحمتها الكاتبة خفيةً في روايتها لتنقل من خلالها حكاية جيل كهل يعيش واقعه المأزوم بين ماضٍ مفقود وغدٍ موعود، مجترّاً أحزانه وخساراته وفراغاته. الجيل الذي سبقه، يتمثّل في والد نشيد (الجدّ) الذي اختار أن ينعزل في مزرعته على أطراف قريته بين القدس وبيت لحم، رافضاً أن يتماهى مع مجتمعٍ تحكمه دولة هو أكبر منها سناً، (إسرائيل). «يعيش حريصاً على أن يعزل نفسه عنهم، لكي يظهر كأنه مشغول دوماً مثلما كان في الماضي، (حينما كان فدائياً)». أمّا الجيل الذي لحقه، فيتجلّى عبر شخصيتي بيسان وخالد. وهو جيل ذو ذاكرة بيضاء، إن جاز التعبير. أبناؤه لا يحملون عبء الذاكرة الثقيلة (خيبات الأجداد والآباء) إنما يعيشون على أمل تحقيق ما لم يحققه سلفهم. أعينهم شاهدة على بعض وقائع الإنتفاضة الثانية، وهم يحلمون دوماً بانتفاضة ثالثة تُعيد لهم حريتهم المغتصبة وذواتهم المهددة خلف جدارٍ لعين تعتقده «تنيناً إسمنتياً يعيدنا إلى العصور الوسطى ويجعلنا أسرى جميعاً دون أن يسأل عنّا أحد».
لا تهتم بيسان، الطالبة الجامعية التي تكره اسمها- وإن غنّت له فيروز- بالطرب الذي يعشقه والدها وجيله، بمن فيهم أم خالد التي تقوم ليلاً بـ «كزدورة» في سيارتها كي تستمع بصفاء إلى إغنيات طربية تدخل جسدها وتنزع منه توتراً تعانيه خلال النهار. فالفتاة «العجولة»، هاوية الراب، تعتقد أن الطرب يعكس رومنطيقية مرحلة مجدّت «الحب» الأفلاطوني ولم ينتج منها سوى هزائم متتالية. أما خالد، فهو مثل بيسان أيضاً، يهتم بالنضال المستقل عن كلّ الفصائل والأحزاب ويتوق الى تحرير فلسطين من أيدي العدوّ الغاصب، بطرق تختلف عما فعله آباؤهم.
وإذا كانت الرواية بدأت في دوار وسط مدينة رام الله وقلبها النابض، فإنها تنتهي في اليوم التالي عند حاجز مدينة قلندية المؤدي الى القدس، يقصده عاصي للمرة الأولى في حياته كي يعبر الى القدس ويُفاجئ زوجته بعدما حصل على التصريح لكونه بلغ الستين. واليه ايضاً توجهت نشيد بغية إنقاذ هاجر، البدوية الجميلة من موتها المحتم. وبعد اتصال غير منتظر من الجدّ، يتجه خالد الى المعبر نفسه كي يمنع والدته من المضي في مهمتها الخطرة، كما يصفها جدّه. وإذ يُسير بخطواته المتعجلة ريبة العساكر على الحاجز، يُقتل بالرصاص، لتُكمل الأم مسيرها باكيةً، عاجزة عن معرفة مصير ابنها. تُكمل مسيرها وهي تُحدّث نفسها بلكنة فلسطينية حادة: «مثله مثل الناس، نحنا مش أحسن منهم، اللي بصير عليهم بيصير علينا».
«الخيمـــة البيضاء» رواية جميلة تحكي الحياة اليومية في فلسطين اليــوم، الغائبة عن أحداث العالم العربي المستعر في حروب ولدت من رحم الربيع العربي. هذه الحياة التي يتحكّم الاحتلال في كلّ تفاصيلها هي ما أرادت ليانا بدر أن تنقله الينا. أن تضعه نصـــب أعيننا المتصلبة في مكان آخر من العالم.