لأوروبا- ابتداءً- والغرب، تالياً، مكتسبات تاريخية لا يُنْكِرها عاقل نزيه. وقد حققتها شعوبُها وأممها على امتداد حقبة زمنية انطلقت موجاتُها الأولى في القرن الخامس عشر، واستمرت تتعاظم وتتَّسع نطاقاً، وتزيد تراكماً طوال الستمئة عامٍ الأخيرة، حتى أنّ النموذج الاجتماعي الذي ابْتَنَتْه أوروبا لنفسها- وبات نموذجَ الحياة في الغرب برمّته- أغرى شعوباً وأمماً ومجتمعات أخرى، غير أوروبية وغير غربية، باحتذائه والسَّير في مجراه طواعيةً، بعد أن زرعت أوروبا الكولونيالية نفسُها بِذرتهُ في البلدان التي وطأتها جيوشُها، وحَكَمَتْها إداراتُها الاستعمارية، وأقامت فيها نواة الدولة الحديثة.
في هذا التاريخ الطويل من المكتسبات الكبرى- في أوروبا والغرب- محطات عدّة يمكن تلخيصها في محطّات سبْع رئيسية:
أولها النهضة؛ وهي كناية عن حركة تجديد في الرؤية الأدبية والفنية وفي الحساسية الجمالية، كانت أوروبا مهدَها في القرن الخامس عشر. وإذْ مهَّدتِ النهضةُ لثورة في التعبير الموسيقي-السيمفوني والأوبرالي- وفي الرسم والتشكيل، انعكست مادياً في تطور العمران وجماليات البناء، وتخطيط المدن، وازدهار المتاحف ودور الأوبرا والمسرح، وشقِّ الطرق وبناء الجسور والقصور والكنائس…إلخ. وفي هذه الحركة، كانت أوروبا تستعيد بعض الموروث اليوناني-الروماني، والبيزنطي الشرقي، وتضيف إليه لتصنع لبنة أولى للمدنيّة الحديثة.
وثانيها الإصلاح الديني الذي قادته الحركة البروتستانتية اللوثرية والكالفينية، وقاد إلى تحجيم قوة الكنيسة الكاثوليكية والسلطة البابوية المطلقة، وفَتَح الباب-بعد الحروب الدينية الطاحنة- نحو إقرار مبدإ التسامح والحرية الدينية. ولقد كان لذلك الإصلاح الديني، في القرن السادس عشر، الأثر الحاسم في التمكين لقيام الدولة الحديثة في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وللوحدات القومية في القرن التاسع عشر، مثلما كان مدخلاً إلى الفصل بين الدولة والدين، وإلى انكفاء الكنيسة عن الشؤون العامة وانكفائها إلى الشؤون الروحية؛ هذا إن لم نشأ أن نصدّق ماكس فيبر في أطروحته التي تقول، إنّ الإصلاح الديني كان شرطاً لقيام الرأسمالية كنظام اقتصادي.
وثالثها الثورة الصناعية والزراعية في بريطانيا، ابتداءً، ثم في مجمل أوروبا. وهي ثورة غيّرت شروط الحياة، وطوَّرتِ الإنتاجَ ووسائله، ووفّرت فرص العمل للملايين، وأنتجت شروط الانتقال الحاسم من اقتصاد الكفاف إلى اقتصاد الوفرة، ومن نظام الإنتاج الإقطاعي إلى نظام الإنتاج الرأسمالي. وكان من نتائجها الحاسمة التمكينُ لتطوُّر العلوم والمعارف، والنظام المجتمعي برمّته من طريق عقلنته وتنظيمه، وتفكيك روابطه القرابية التقليدية، وإفساح المجال أمام ميلاد الفرد والروح الفردية.
ورابعها الثورة العلمية التي شهدتها ميادين الفلك والفيزياء والكيمياء والهندسة، وكانت موجتُها الكبرى في القرن الثامن عشر. ولم تكن آثار هذه الثورة كبيرة في التطبيقات المادية لنتائج العلوم في الاقتصاد والإنتاج، وفي رفد الثورة الصناعية برافدٍ جديد فحسب، بل كانت آثارها، أيضاً، كبيرة في نشر النزعة العلمية التجريبية في التفكير، وفي تسديد ضربات موجعة للتفكير الثيولوجي، وتحرير العقل الإنساني من النظرة السحرية إلى العالم، وتحرير الفرد من الخوف، ومغالبة أسباب العطالة المبكّرة والموت المبكّر.
وخامسها فلسفة الأنوار والعهد الموسوعي، وهما يؤرّخان لحقبة الصعود الظافر للعقلانية والروح التجريبية والنقدية في التفكير بعد رسوخ ثقافة التسامح والنزعة الإنسانوية في الفكر الأوروبي وانتصار قيمها في الحياة الثقافية. لقد أحدثت الأنوار انقلاباً هائلاً في العقائد واليقينيات، وفرضت نفسها مساراً فكرياً نافذ المفعول لدى قوىً اجتماعية جديدة ستنهض بأبلغ الأدوار في مضمار التغيير السياسي والاجتماعي في أوروبا، بدءاً من نهايات القرن الثامن عشر. يكفي، بياناً لمركزية حلقة الأنوار، أنّ أفكار الموسوعيين وفلاسفة الأنوار (هي التي) ألهمت الثورات البرجوازية والديمقراطية الكبرى وحركات التوحيد القومي في أوروبا، ومكّنتها من الموارد الفكرية التي قارعت بها الإقطاع والكنيسة والمَلَكيات المطلقة.
وسادسها الثورة السياسية والديمقراطية والقومية، وقد تغيَّر بها وجْهُ أوروبا الكياني، والعمران الداخلي لمجتمعاتها ودُوَلها. إن الثورة الإنجليزية وتغيير نظام الملكية المطلقة في إنكلترا، والدستور الأمريكي، والثورة الفرنسية، والوحدة القومية في إنكلترا، والولايات المتحدة، وفرنسا، وصولاً إلى الوحدتين الألمانية والإيطالية، أخرجت أوروبا من عهود الاستبداد الملكي المطلق، ومن عهود التجزئة الكيانية في عشرات الدويلات والإمارات المتنازعة، لتقيم دولاً قومية كبيرة قابلة للحياة وقادرة. وهو تطوّرٌ عزَّزته الحركات الثورية والديمقراطية الجديدة في أوروبا بإعمار دولها بالنظام الديمقراطي الحديث، وبالعلمانية كحيادٍ للدولة تجاه عقائد مواطنيها.
أمّا سابعها – وقد بُنيَ على مكتسبات سوابقه- فهو الثورة التِّقانية (التكنولوجية) في القرن العشرين، التي أصابت ميادين الحياة كافة، وغيّرت من صورة المكان والزمان ومفهوميهما في الوعي، ووفّرت من إمكانات التواصل ما اختصر على البشرية الكثير. وإذا أضفنا إلى هذا أنّ هذه الثورة المتواصلة تقترن بثورةٍ علمية رديفٍ متواصلة- تُحْدِث تحوّلات هائلة في الطبّ والبيولوجيا والزراعة- اجتمعت القرائن على أن التكنولوجيا اليوم تجسّد مكتسبات الحداثة كافة، نظيرَ ما تميط اللثام عن كثيرٍ من سيئاتها التي لا تحصى.
هذه لحظات/ أطوار في تاريخ أوروبا والغرب الحديثين والمعاصريْن؛ تؤرّخ لهما، مثلما تؤرّخ لحركة تاريخية صاعدة فيهما نطلق عليها، اليوم، اسم الحداثة. يجادل كثيرون في الغرب في أن تكون الحداثة هي الظاهرة المجسِّدة لتلك التحوّلات والمعبِّرة عنها. ويجادل آخرون في مشروعية النظر إليها بوصفها من الفتوحات الإنسانية الكبرى في المسيرة نحو التقدم، مدافعين عمّا بعدها (ما بعد الحداثة)، موجّهين سهام نقدٍ لها لم يتوقّف منذ منتصف القرن التاسع عشر. نحسب، من جهتنا، أن الحداثة موجةٌ كبرى في التاريخ تقع تحت سقف النقد لا فوقه. ولكنّ نقدها ينبغي ألّا يكون تكئة لرفضها ورفض مكتسباتها، مثلما ينبغي في الوقتِ عينِه- إخضاع ما بعد الحداثة لنقضٍ نظيرٍ نتميَّز فيه حاجاتنا إلى هذه وتلك.
__________
*الخليج الثقافي