مسرحية “لا أحد” التي تعرض حاليا على خشبة “مونفور” الباريسي، هي في الواقع مستمدة من البعض من أعمال الألماني فالك ريختر، مثل “تحت الثلج” و”انتشاء”، وقد ألف بينها المخرج الفرنسي سيريل تيست بالتعاون مع مترجمة المؤلف وأعضاء فرقة “الورقة البيضاء” بمونبلييه، لصياغة عمل طليعي يهتم بالشكل قدر اهتمامه بالموضوع، ويمزج بنجاح لافت بين المسرح والسينما.
وبين الجمهور والخشبة حاجز بلوري تبدو وراءه مكاتب، حيث يوجد موظفون بحواسيب نقالة وآلة ناسخة وقاعة اجتماعات، وفوق هذه الفرجة البلورية شاشة يظهر عليها منذ البداية ميثاق هذا العمل المبتكر الذي يحوي سبع نقاط، استهل بالمقولة التالية “مع الإجراء الفيلمي، نعرض على الركح كتابة سينما زائلة، لا توجد إلاّ في حاضر المسرح”، ثم يبدأ العرض الحيّ خلف الحاجز البلوري، وينتقل مباشرة عبر تصويره بالكاميرا إلى الشاشة، أي أن المتفرج الجالس أمام الحاجز يشاهد الممثلين على الركح وعلى الشاشة في الآن نفسه.
الجديد في هذه التقنية أن كل شيء مباشر، التمثيل والتصوير والمونتاج وميكساج الصوت والموسيقى، أي أن الممثلين يؤدون أدوارهم أمام الجمهور وأمام الكاميرا في الوقت ذاته، وكما في السينما، تتركز الكاميرا على وجه أو وضعية أو حوار فيما يظل الأشخاص الآخرون يؤدون أدوارهم خارج الحقل، وما يخامر أذهان بعضهم أحيانا يرد في شكل صوت خارج مجال العدسة.
ولا يلبث المتفرج أن يلفي نفسه أمام جوّ خانق، يتبدى خلاله صراع صامت بين مختلف العاملين بالمؤسسة، حيث يحاول كل واحد أن يسحب البساط إليه، بالنميمة والعرقلة والتزلّف، وتتجلى موازين القوى في أجلى مظاهرها بين من يخول له مركزه التعالي على زملائه ومخاطبتهم بجفاء، ومن يحتم عليه مركزه الوضيع التخاذل والتصاغر أمام من هم فوقه مرتبة.
والغاية هنا غايتان، غاية مؤسسة لا همّ لها إلاّ الكسب، لا تتردد في إعادة الهيكلة حفاظا على قدرة التنافس في السوق، وغاية موظفين همّهم الوحيد المحافظة على مورد رزق، واستعمال كل الوسائل، حتى غير الأخلاقية منها، لتجنب الطرد، والطمع في الترقي ولو على حساب زميل، ويقول أحدهم “كان ثمة دائما موظف يراقبني كي يعرف ما إذا كنت أقوم بعملي بنجاعة”.
بطل المسرحية مستر نوبودي -أو جان بِرصونْ في الصيغة الفرنسية- هو مستشار في إعادة الهيكلة، يتولى قياس مردود إنتاجية المؤسسة وتخفيض عدد العاملين فيها، وتعديل مواقع بعضهم، وإعادة توجيه آخرين أو طردَهم، إذ لا مجال للأخلاق والمشاعر في مؤسسة غايتها الأولى الربح.
ما يهم بالدرجة الأولى هو الأرقام التي تحققها المؤسسة، وبِرصونْ يلاحظ كل ذلك، ويتألم له أحيانا، فيرتد إلى ماضيه يستعيد لحظات من حياته الخاصة، ويحاول أن يتمرد على المنظومة، ولكنه لا يملك لمقاومتها حيلة، فينصاع لشروطها قائلا “كنت أود أن أفعل كل شيء على أحسن ما يرام كي أتجنب إعادة الهيكلة”، فيقبل بإذلال زملائه بعد أن يضطر بدوره إلى تبني نزعة التنافس المحموم الذي يسحق الفرد بلا رحمة، وإن كان في قرارة نفسه غير راض بالمرة عن سلوكه، إذ يقول في لحظات صفائه وعودة وعيه “ينبغي أن أنصرف، شيء بداخلي يصرخ”.
هي مسرحية تعالج عنف المنظومة المسلط على الفرد والفراغ الداخلي الذي يتولد عنه، وهي الثيمات التي ما فتئ فالك ريختر يشتغل عليها، وهو الذي درس اللسانيات والفلسفة والإخراج المسرحي في جامعة هامبورغ قبل أن يختار المسرح، تأليفا وإخراجا، وبذلك يلتقي ريختر مع جملة من المفكرين الذين أدنوا واقع العمل في المجتمعات الصناعية.
تقول حنا أرندت عن العمل تحت الأنظمة الشيوعية “مأساة الحداثة أنها غيّرت الأثر إلى عمل، وصار الإنسان العامل تميمة التوتاليتارية”، ولكن الوضع ليس أحسن حالا في المجتمعات الليبرالية، حيث لا يملك الفرد أن يقيم علاقة مع زملائه إلاّ عن طريق الآلات والهاتف والأدوات الإلكترونية والشاشات والحواسيب. وإذا كانت فكرة وضع الممثلين خلف حاجز بلوري ليست جديدة، فقد استعملتها ماتيلدا ماي في “الفضاء المفتوح” وفرقة غوب سكواد في “قبل عيونك الحقيقية”، وكذلك التوسل بالفيديو كما رأيناه في “قبل ودموع” للبلجيكي جاكو فان دورميل، فإن هذا الإجراء الفيلمي لم يتميز بدقته المذهلة فحسب، وإنما أيضا بقوة رمزيته، من جهة وصف المؤسسة كفضاء مغلق يحتدم في أرجائه عنف صامت، ومن جهة الكاميرا كأداة مراقبة عصرية للتحكم والهيمنة.
وفضل فرقة “الورقة البيضاء” أن هذا العمل تم تصويره وتمثيله وتركيبه وإخراجه في زمن واقعي أمام أنظار المشاهدين، وتلك مبادئ هذا الإبداع الجديد الذي يضع الصنعة جانبا من أجل حقيقة اللحظة، ولو من خلال الصور.