الكتابة المشتركة

*أمير تاج السر 

منذ فترة وفي ندوة عامة، سألني أحد المشاركين عن رأيي في مسألة الكتابة المشتركة، بمعنى أن يكتب روائيان أو أكثر رواية واحدة، وتجد لها قبولا لدى جماهير القراء. كما لو أنها كتبت بواسطة روائي واحد.

الكتابة المشتركة في الحقيقة ليست جديدة على الإطلاق، ودائما في كل جيل يوجد من يمارسها، لكنها ليست كثيرة ولا منتشرة حسب علمي، ولذلك نادرا ما نجد اسمين على كتاب واحد، وإن وجدنا ذلك، غالبا ما نتساءل:
لماذا كتبت هذه الرواية، أو هذا الديوان الشعري بواسطة اثنين وليس شخصا واحدا كما هو معتاد؟ خاصة إن كان الاثنان معروفين لدى القراء.
في رأيي الشخصي، أن الإبداع الحقيقي، يأتي في تفرد أحدهم بالكتابة، أي أن يكتب فكرته ورؤيته الخاصة، وبأدواته الشخصية اللتين ربما استغرق زمنا طويلا في تكوينهما، ويخاطب بهما قراء هم أيضا يعرفونه، وقضى وقتا طويلا أيضا، من أجل أن ينغرس بإبداعه وسطهم. هذا الكاتب الخبير ببيئته، ومفرداتها الذي قدم تلك البيئة، سنجده في الغالب مترددا وقليل اللمعان، إن شارك في كتابة فصل أو فصول رواية، ونجد من شاركه الكتابة، أيضا يعانون من العتمة التي لا علاقة للنص بها، ولكن لتجمهر الأدوات المختلفة في النص، وحتى الذي ابتكر فكرة النص وابتدأ الكتابة، قد يحس بالارتباك نفسه، وهو يكتب فكرته داخل نص متعدد الأصوات.

لو أردنا كتابة رواية عن الريف المصري مثلا، سنجد عشرات وربما مئات الكتاب المصريين، عالجوا تلك الفكرة من قبل، وفي نصوص جيدة مبهرة، استمتع بها القراء، وفي الوقت نفسه وجدت قبولا لدى النقاد، في زمن قلت فيه الكتابة النقدية، سنجد أعمالا لتوفيق الحكيم، ويحيى حقي، ونجد أيضا ليوسف أبو رية ووحيد الطويلة، وغيرهم كثيرين، لكن إن وضعنا فكرة واحدة، مثل فكرة رواية «يوميات نائب في الأرياف»، لتوفيق الحكيم، إحدى أجمل الأعمال الكتابية المعاصرة، وطلبنا من كل هؤلاء المجيدين أن يكتبوها، بحيث يشارك الكاتب بفصل واحد أو اثنين، سنحصل على كتاب، ونحصل على حكاية قد تكون محكمة في الحبكة والتفاصيل لكنها ليست لامعة ولن تجد القبول الذي يكفي ليجعلها محط أنظار ونقاش، مثل «يوميات نائب في الأرياف» التي كتبها توفيق الحكيم.

أيضا لو نظرنا لقضية الحرب، التي تطال دولا عربية عديدة هذه الأيام، ونظرنا إلى تداعياتها من تمزق وتشريد ودمار، لما كان عامرا في الماضي، سنجد أبجديات النصوص التي تتحدث عن ذلك واحدة، الدمار في طرابلس الغرب، هو الدمار في الفلوجة، في العراق، في حلب في سوريا، في أي مكان آخر، فيه سياط من لهب، والإنسان الذي مات أو تشرد أو جاع، أو اكتهل فجأة من جراء الموت اليومي، الذي يعانيه، هو الإنسان في كل مكان، وحتى أدوات الموت واحدة لا تتغير، والذي يلقي القنبلة الحارقة هنا، هو شبيه بالذي يلقيها هناك وهكذا.

أي كاتب متمرس من هذه البلدان، يمكنه التقاط هذه الأبجديات وكتابتها في نص روائي، مطعم بخياله، أو حتى غير مطعم، لا يهم. أي كاتب سيكتب التفاصيل نفسها مع اختلاف في المكان فقط، لكن إن طلبنا من خمسة كتاب ينتمون لخمس دول تعاني من تلك المأساة، أن يكتبوا، سنحصل على نص فيه تباين كثير، فيه انفعال هنا وبرود هناك، فيه دم غزير هنا، ودم متجمد هناك. سيكتب كل فرد حصته بأدواته هو، ويعالج بتلك الأدوات، خامات الكارثة. وأيضا هنا ثمة تساؤل عميق: لماذا لا يكتب كل واحد نصه الدامي وحده، وبأدواته الفنية وحدها؟

أذكر أن هناك كتابا أوروبيا، لم يرسخ اسمه في ذهني، وأظنه رواية، كتب منذ سنوات بواسطة ثمانية وعشرين كاتبا، كل واحد كتب فيه فصلا، وأعتقد أن هذا هو السبب الذي لم يجعل تلك الرواية تشتهر وتصبح قريبة من الاستدعاء في الذهن، وتستجيب للحظة مناداتها.

حين كنت أكتب الشعر بالعامية قديما، تعرفت إلى شاعرين، يكتبان بالعامية أيضا، وينتجان أغنيات يرددها المطربون، في المدينة مثلما كنت أنتج. كانت سادت موضة في تلك الأيام، أن يتغنى المطربون بأغنيات الفخر الوطنية، أو التي تمجد شخصيات معينة إما شخصيات تراثية، وهذه لها أغنيات تمجدها، محفوظة في التراث، ويتم انتشالها وترديدها، وإما شخصيات معاصرة، وهذه تصاغ لها أغنيات شبيهة بالتراثية، وتتطلب مهارة في تقمص روح المادح الشعبي القديم، وطريقته، حتى تنجح الأغنية.

أحد هذين الشاعرين اقترح أن نكتب أغنية مثل هذه، ليست خاصة بشخصية حية موجودة، ولكن شخصية متخيلة، تبدو حقيقية، على أن يكتب كل منا فقرة فيها. وهذا ما حدث، حيث كتبنا فقراتنا، وأعطيناها لمغن هناك، وقام بتلحينها وغنائها بسرعة، ولم تنجح قط، كنت أستمع إليها، فأجد فقرتي مليئة بالصور الغريبة، وسط فقرتين أخريين، أقرب للشعبية، وأحس بأن المغني يجاهد حتى لا يخطئ في نطق كلمة من الكلام غير المألوف الذي حفظه، وكانت هي التجربة الأولى والأخيرة، ناقشناها بعد ذلك، ولم نعد لتكرارها مرة أخرى، عاد كل منا لصياغة أفكاره الخاصة، وأغنياته التي قد تنجح وقد تسقط، لكن ليس بسبب ترنح الصياغة، وعدم وحدة الجو العام.
الآن لم أعد أذكر اسم تلك الأغنية، وحقيقة لم أعد أذكر حتى اسم المغني، وأصلا تجربتي تلك، كانت مرحلة ما من مراحل التعاطي مع الكتابة، انتهت بخيرها وشرها.

في الأدب العربي عندنا تجربة معروفة، أكثر من غيرها، هي تجربة جبرا إبراهيم جبرا وعبد الرحمن منيف، في كتاب «عالم بلا خرائط»، ومعروف أن كلا الكاتبين، معلمان من معلمي الكتابة، ولهما تاريخ ودراية وابتكارات وتجربة ناجحة، انتقلت إلى الغرب، بعد ترجمتها، ونجحت هناك أيضا.

«عالم بلا خرائط»، لم يكن كتابة سيئة بكل تأكيد، فقط كان بلا هوية، ولا تستطيع أن تنسبه لأي الكاتبين، وأنت ترى أسلوبين رائعين يتنازعانه.
إذن ليكتب كل روائي كتابه وحده، لينجح أو يسقط وحده، بلا سبب آخر غير أسبابه الشخصية، أو حتى بلا أسباب، فالنجاح أو السقوط في أي مشروع حتى غير مشاريع الكتابة، لا يحتاج لسبب على الإطلاق.
_______
*القدس العربي

شاهد أيضاً

فرويد وصوفيا في جلسة خاصة

(ثقافات) فرويد وصوفيا في جلسة خاصة د. صحر أنور جلس سيجموند فرويد أمامها ينظر إلى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *