خاص- ثقافات
*أحمد ثامر جهاد
في فيلمه الموسوم (أرض النعيم ) يقدم المخرج الألماني فيم فيندرز المشغول بقضايا عالمنا الراهن رؤية سينمائية مختلفة عما شاهدناه من أفلام تناولت واقع أمريكا خلال أو ما بعد أحداث 11 سبتمبر،الواقعة التي غيرت العالم بشكل دراماتيكي لم يسبق له مثيل. رؤية صادقة وغير مفتعلة بنيت على لغة سينمائية هادئة سعى فيها المخرج الطليعي واسع الثقافة إلى إعادة النظر بقيمنا ومفاهيمنا عبر محاولة الاقتراب من فهم (الآخر) لا نبذه.
وبلغة بصرية تؤسس لهذا الفهم الثقافي المغاير ستبدو الأجواء الدرامية التي يعرضها الفيلم مفارقة إلى حد ما للصورة المكررة التي اعتدنا مشاهدتها في أفلام هوليود، فثمة حياة مأزومة ومدن موحشة ونظرات مرتابة، أمريكا أخرى غير التي نعرفها. ذلك أن الصورة النمطية عند فيم فندرز لا يمكن الوثوق بها وحقيقة الأشياء لا يمكن الوصول إليها إلا عبر تجاوز المظهر الخادع للواقع نحو تلك الكآبة المستوطنة في الأعماق.
رسالة هذا الفيلم الذي أنتج بميزانية متواضعة بلغت نصف مليون دولار والذي ينتمي لسينما مستقلة تؤمن بما تقول تدفعنا إلى الاعتقاد بأن أحداث سبتمبر هي البوصلة التي قادت أمريكا،في الداخل والخارج، نحو حالة من العمى السياسي والعنف غير المبرر وعدم الثقة بالعالم.
****
في الدقائق الأولى للفيلم تعود الفتاة لانا إلى موطنها الولايات المتحدة للبحث عن خالها بول جيفريز وذلك بعد غياب دام عشرين عاما قضتها في تل أبيب مع أمها فرجينيا التي حملتها رسائل لأخيها بول عقب انقطاع طويل بينهما.
لانا فتاة ذات ميول تحررية؛ فهي معارضة لبناء الجدار العازل في الأرض المحتلة، تحرص على متابعة أخبار الضفة من خلال حديثها المتواصل عبر الانترنيت مع أصدقائها هناك.
في الطرف المقابل نرى بول المهووس بعمله في قوة المهمات الخاصة الأمريكية، وهو يقضي جل وقته في مراقبة تحركات الناس، متخفيا في سيارة حكومية مزودة بأجهزة تسجيل وتصوير واتصال، يجوب بها شوارع المدن وطرقاتها بحثا عن أية تحركات مريبة،خاصة تلك التي تصدر عن غير الأمريكيين.
أكثر من أي شئ آخر يحب بول أمريكا ويسعى لمنع وقوع كارثة أخرى فيها،كما يكره بلادة رجال أمنها غير العابئين بتتبع مصادر الخطر، لذا يعتقد أنه مسؤول عن حماية أرواح الناس. ولن يمر وقت طويل حتى تعثر لانا على خالها الذي يتهرب في البداية من لقائها غير مكترث، كونه لم يكن يوما على وئام مع أخته التي يصفها بالشيوعية ولا مع زوجها المبشر في إحدى الإرساليات الدينية.. إلا أن الأحداث اللاحقة ستكون سببا في التقارب بين لانا وخالها ودافعا أساسيا لتتغير وجهات نظر الأخير عن الحياة والناس.
خلال تجواله اليومي في الشوارع الخلفية لمدينة لاس فيغاس التي تظهر بوصفها عاصمة الجوع في أمريكا يلاحظ بول رجلا بزي عربي يحمل صندوقين عليهما علامة مسحوق الغسيل بوراكس. تنطلق شكوكه ويتحمس لمتابعته عله يصل إلى خيط شبكة إرهابية متخفية. لكنه يكتشف بعد وقت قصير أن رجل البوراكس ليس سوى باكستاني فقير اسمه حسن أحمد يعيش في دار للعجزة، والأهم من ذلك كله أن بول يشهد بنفسه خلال متابعته المتواصلة مقتل هذا الرجل وسط الشارع على يد مجموعة من الشباب المتهورين. تتزعزع ثقة بول بما كان يظنه،خاصة بعد أن يخبره زميله المكلف بتحليل المعلومات الأمنية التي يرسلها إليه أن الرجل مجرد شخص بسيط يكسب قوته من بيع الصناديق الفارغة.
يبدو بول المقاتل السابق في حرب الخليج شخصية مأزومة ليس بسبب قيمه الأحادية وعصابه الداخلي فحسب، بل لفقدانه الثقة بكل ما حوله، نراه في أكثر من مشهد يبكي بمرارة، مختليا بنفسه في الحوض الخلفي لسيارته. بطل مشوش يكره الاستسلام وقبول الآخر،خدم أميركا طويلا ويرفض أن يكون عاجزا عن حمايتها. تلك صورة نمطية أخرى لمواطن يفاخر بأمريكيته دون أن يعرف مقدار ما فيها من صنيعة مؤسساتية.
هكذا ستكون الفتاة لانا هي الوحيدة القادرة على تغيير بول لصدقها وصلتها الحميمة به، فنراها تقنعه في سياق الأحداث اللاحقة على حمل جثمان حسن بسيارته لغرض إيصاله إلى ذويه.رحلة طويلة تجمعهما وتتيح لهما فرصة الحوار معا وتبادل وجهات النظر حول قضايا عدة. يحرص بول من جهته على أن المهمة هذه قد تكون أشبه بمجازفة في ميدان خطر، فيفرض على الفتاة التي تواجه الموقف ببراءة شديدة أبجديات عمله الأمني التي تنطلق من فكرة أن الغرباء أناس مشتبه بهم وينبغي الاحتراس منهم.
تدريجيا يصبح بول خائبا ووحيدا، فلا شئ من ظنونه يبدو صحيحا،والحياة التي اعتبرها مصدر خطر دائم، بدت مغايرة الآن.مليئة بأحزان بشرية أكثر مما يظن.
****
في هذا الفيلم الذي شارك المخرج في كتابة نصه تبدو حرب العراق حاضرة في خلفية الأحداث والمواقف،فها هي ثلاث سنوات مرت على أحداث سبتمبر والدولة العظمى لم يهدأ لها بال، فأخذت تناقل جنودها في حربين مدمرتين بأفغانستان والعراق،فعلت كل شيء لكسبهما.إلا أنها لم تصارح شعبها والعالم أجمع بالسؤال الجوهري الذي ينبغي الإجابة عنه. لماذا يكرهوننا؟
تقول لانا: لحظة اصطدام الطائرات ببرجي التجارة كنت هناك في الشرق ورأيت الناس يهللون للمشهد.. يسأل بول: لماذا يهللون لسقوط أكثر من ثلاثة آلاف ضحية من الأبرياء؟ ترد لانا بمرارة :لأنهم يكرهوننا.
يجيب بول:انهم إرهابيون… لانا :كلا كانوا أناسا عاديين.
يختتم فيندرز فيلمه هذا بمشهد مؤثر يذهب فيه بطلاه إلى موقع برجي التجارة،ويطلون على ذكراه الأليمة.تتمنى لانا لأصوات الضحايا أن ترتفع ليسمعها الناس، فهم لا يريدون أن تسفك المزيد من الدماء ويقع العديد من الضحايا باسمهم. ليس أمامنا إلا مناشدة السماء..ساعدنا أيها الرب في عجزنا وامنحنا السكينة.
يفكر بول مليا بما يراه ويسمعه.وعلى إطلال الكارثة الشاخصة يلتزم الصمت ويحاول الإصغاء جيدا.
* فيم فيندرز: مخرج ألماني عرف بمواقفه المناهضة لنظم هوليود الإنتاجية،وبرفضه لأفكار الهيمنة الأمريكية،ويعد علامة بارزة في السينما العالمية. حصدت أفلامه العديد من الجوائز في المهرجانات السينمائية ونالت تقديرا واسعا في أوساط النقاد والمشاهدين. من أبرز أفلامه:ملوك الطريق، باريس تكساس،الصديق الأمريكي أجنحة الرغبة، فندق المليون دولار.
____________
*كاتب وناقد سينمائي