رِحلتي.. تحويل الأحلام إلى أفعال (1)

*ترجمة وتقديم لطفية الدليمي

مذكّرات الرئيس الهندي الراحل الدكتور زين العابدين عبد الكلام

تقديم المترجمة
تتطلّب الحرفة الروائية بالضرورة تدقيقاً متواصلاً في طبيعة الشخصية الإنسانية التي تُعدُّ عموداً أساسياً تستند إليه أية كتابة روائية بصرف النظر عن التجنيس الروائي السائد ، وحتى لو كانت الرواية تنتمي لما يسمى ( رواية الأفكار ) فليس ثمة أفكار تأتي بمعزل عن العقول المنتجة أو المتلقّية لتلك الأفكار ؛ إذن الشخصية الإنسانية تبقى عنصراً حاسماً في كل الحقول الإبداعية ، ومن الطبيعي أن ينسحب الاهتمام بالشخصية الإنسانية إلى دراستها من قبل المهتمين في مختلف حقول اختصاصاتهم ، وبالنسبة لي فقد عملت منذ بداياتي المبكرة في الكتابة الروائية على اتباع منهج في القراءات المكثفة لعلم نفس الشخصية الإنسانية ، وثمة نمط فريد في تلك الشخصية استهواني منذ البدء وعكفت على تتبّع آثاره بين الشخصيات التي أعرفها أو سمعت بها سواء في محيطي الفردي أو ضمن المحيط العالمي الواسع . يتمحور نمط الشخصية التي أعنيها هنا في فرد يحمل منذ صغره أهدافاً ملحمية عظمى ويرى ذاته خليقة بإنجازها ( أو المساهمة في إنجازها ضمن فريق عمل ) ولايقنع بأن يمضي بحياته وهو يمتهن مهنة متداولة حتى لو كانت في عداد المهن المرموقة المدرّة للكثير من المال ، والمثير في هذه الشخصية أنها تكون في العادة ذات نوازع عرفانية وتعيش عيشة الكفاف وترى سعادتها متحققة في البذل والعطاء اللذين يرتقيان بأحوال الناس على الصعيد الجمعي – لا الفردي فحسب – ، وقد شاءت مصادفة جميلة غير محسوبة أن يقع كتاب باللغة الإنكليزية بين يديّ منذ نحو عشر سنوات خلت ؛ كان الكتاب بعنوان ( أجنحة من نار Wings of Fire ) لمؤلّف هندي يدعى ( زين العابدين عبد الكلام ) وسرعان ماعرفت أن الرجل هو الرئيس الهندي رغم أنه ألّف ذلك الكتاب قبل توليه الرئاسة الهندية . مضيت في قراءة الكتاب بشغف وعرفت منذ الصفحات الأولى منه أنني أزاء شخصية من النمط الذي حكيت عنه فيما سبق : شخصية إيثارية ذات طموحات ملحمية عملاقة أنجزت الكثير للأمة الهندية وبخاصة في المجالين الصاروخي والنووي ، ولطالما امتلك الرجل رؤية مستقبلية طموحة للأمة الهندية .

516880
نشر عبد الكلام سيرته الذاتية المعنونة ( أجنحة من نار ) عام 1999 ، ونُشرت طبعتها الحادية عشرة عام 2002 ، وقد ظهرت مترجمة إلى العربية ضمن مشروع ( كلمة ) للترجمة عام 2009 . يمكن عدّ السيرة الذاتية هذه نوعاً من سيرة تقنية ومعرفية  ؛ إذ تناول عبد الكلام في سيرته هذه مسيرته المتصاعدة والشجاعة في أطوار أربعة قسّم بها حياته وابتدأ الطور الأخير فيها عام 1991 وتُرِك مفتوح النهايات في إشارة واضحة إلى الآفاق البعيدة التي تمتدّ إليها تطلعاته  . بعد أن أصبح عبد الكلام رئيساً للهند في الفترة 2002 – 2007 وّثّق التحديات المهمة التي جابهت رئاسته في كتاب بعنوان ( انعطافات : رحلة بين التحديات Turning Points : A Journey Through Challenges )  نُشِر عام 2012 ويعدّ سيرة ذاتية رئاسية وإن تخللها الكثير من الرؤى والاستبصارات التقنية التي أراد عبد الكلام رؤيتها متحققة في الأمة الهندية ولكنها تظل رؤى محكومة بالاعتبارات الحكومية البيروقراطية التي خبرها عبد الكلام خلال رئاسته .

نشر عبد الكلام مذكراته الموسومة ( رحلتي : تحويل الأحلام إلى أفعال ) في كتاب صغير عام 2013 ، ويمكن النظر إلى هذا الكتاب – المذكرات على أنه استذكارات جميلة لتفاصيل صغيرة لم يأتِ عبد الكلام على ذكرها في سيرته الذاتية المنشورة في الكتابين السابقين ، وثمة القليل من الاستذكارات والحوادث في هذه المذكرات أشار لها الرجل في سيرته ولكن في سياق تقريري يذكّر بالوقائع ، أما في هذه المذكرات فإن القارئ يستشعر منذ البداية العاطفة الجياشة التي تملأ روح الكاتب وعقله وهو يأتي على ذكر تفاصيل ساهمت في تشكيل وعيه المبكر وشخصيته الإيثارية ذات الطموحات الملحمية العابرة للذات والساعية لتكريس الهند كقوة عظمى على الساحة العالمية .

تمتاز هذه المذكرات بغلبة الطابع الحميمي فيها وتركيزها على الجوانب الإنسانية النبيلة والتي تعدّ ضرورة لازمة تفرضها متطلبات العيش وإدامة الحياة في البيئات الفقيرة من العالم ، وهنا يكاد يشعر المرء أثناء قراءة هذه المذكرات برغبة عبد الكلام في تأكيد القيمة العليا للجوانب الإيثارية الرائعة التي حازها شخوص كثيرون في حياته ابتداء من أبيه وأمه وأخته وابن عمه وحتى بائع الكتب في مدراس وانتهاءً بالعلماء الكبار الذين عمل معهم في وقت لاحق من حياته المهنية ، وأحسب بحقّ أن أمثال هذه المذكّرات تعدّ وثائق أنثروبولوجية ومجتمعية ميدانية تضيف لعدّة الباحث والمتطلّع لفهم طبيعة العلاقات السائدة في المجتمعات الفقيرة – تلك العلاقات المتّسمة بالتعاضد العضوي الذي لانشهد مثيلاً له في البيئات الثرية ، وربما يكون هذا هو السبب الذي جعل البيئات غير الثرية ( والهند منها بالطبع ) قادرة على إنجاز أعاجيب تقنية بكُلَف لاترقى إلا بنسبة بسيطة للمقارنة مع كلف مثيلاتها في البيئات الغنية ؛ إذ أن العلماء والمطوّرين الذين نشأوا في بيئات فقيرة يميلون في العادة إلى الاستخدام الأمثل للموارد وإنتاج مُصنّعات ذات كلف تقع في نطاق قدرة الأغلبية على حيازتها ، ويمكننا في هذا الميدان أن نذكر التطوير التقني الخاص بتصنيع الدعامة القلبية بكلفة رخيصة نسبياً والذي ساهم فيه عبد الكلام ، كما لايمكن إغفال رغبته العنيدة في تصنيع حاسوب لوحي يخدم طلبة المدارس بخاصة ولاتتعدى كلفته بضعة دولارات .  يكاد المرء يشعر وهو يتفحص الكلمات الحميمة التي كتب بها عبد الكلام مذكراته هذه بأنه يريد تثبيت الحقيقة التالية أمام الجميع : من الطبيعي أن يبتهج المرء بإنجازاته العلمية والتقنية الباهرة ، وقد يحصل على أعلى المراتب الأكاديمية والجوائز التي قد ترقى لمرتبة جائزة نوبل ، وقد تنهال عليه الأموال كنتيجة لأعماله البحثية أو التطويرية في حقل ما ، ولكن تبقى سمات الإيثارية وكرم الروح والعطاء والانتباه لمعاناة الآخرين ونبذ روح الجشع هي القيم العليا التي تمثّل مشكاة مضيئة وإلهاماً مستديماً للكائنات البشرية جميعها في هذه الحياة .

14355640_1385862431442586_8283250856905317256_n
جذبني هذا الكتاب بقوة خارقة منذ صفحاته الأولى ، وبالإضافة لتوقي الشديد في قراءة السير الشخصية والمذكرات التي تسهب في الإشارة إلى المخفي وغير المحكيّ عنه فثمة سبب إضافي دفعني لترجمة هذا الكتاب . تمدّنا نظريات التنمية الحديثة بوسائل وأساليب ونماذج معيارية قياسية صارمة لتحقيق الارتقاء الاقتصادي والتطور التقني ، ولكن هذه النظريات لاتأتي في العادة على ذكر ( الرمزية ) التي تمثّلها بعض الشخصيات المؤثرة والتي يمكن لها أن تدفع بالتطور التقني أشواطاً إلى الأمام ، وربما يكمن السبب وراء هذا الأمر أن نظريات التنمية المعيارية تتحدث عن بيئات مؤسساتية شائعة في العالم الغربي الذي لم تعد تشغل الرمزية فيه أي حيّز في الاهتمامات الفردية ؛ في حين أن الأمر يختلف مع البيئات المشرقية التي لاتزال الرمزية الشخصية تلعب فيها دوراً مؤثراً ، وهنا لابدّ من التذكير أن هذه الرمزية عامل بنّاء ودافع للتنمية على الصعيدين الفردي والمجتمعي متى ما امتلكت الشخصية الرمزية سمات إيثارية وحازت على قدرات علمية وتقنية بارعة ومتقدمة تحصّلت عليها بالجهد والكدّ والتعب والمجالدة بعيداً عن الرمزيات الدينية أو العائلية او السياسية المعلّبة التي ابتلي بها العالم الثالث ( ونحن جزء متأصل فيه بالطبع ) . يقول عبد الكلام في سياق إجابته عن سؤال يختص بوصاياه للشباب : ينبغي إحلال الروحية القائمة على مبدأ ( ماالذي يمكنني منحه ) محلّ الروحية القائمة على ( ما الذي يمكنني اقتناصه ) ، وأرى أن هذه الرؤية الإيثارية الراقية هي التي تتغلغل في ثنايا تفاصيل هذه المذكرات ؛ ومن ثمّ كانت السبب الذي دفعني لترجمة هذا الكتاب ووضعه بين أيدي القرّاء الكرام .

ثمة ملمح أساسي لايمكن أن يخفى على قارئ هذا الكتاب : يستشعر عبد الكلام في دواخله نوعاً من المصالحة الطبيعية غير القسرية بين العلم والنوازع الروحانية ، ويرى في التناقض المزعوم بين العالمين تأكيداً للمادية المتطرفة ، وتتأسّس نظرة عبد الكلام على قناعته الفلسفية المبكرة التي يجملها بقوله : ” لم يكن بوسعي القبول بأنّ مدركاتنا الحسية هي المصدر الأوحد لبلوغ المعرفة والحقيقة ” ، ثم يمضي في توضيح فكرته قائلاً : ” وقد نشأت مع درس أساسي يقول أن الواقع الحقيقي يكمن في مكان ما بعيداً عن العالم المادي الذي نراه ونتعامل معه – في مملكة العالم الروحانيّ ، وأن المعرفة الحقيقية تكمن في استكشاف أغوار الذات الجوّانية ، أمّا خلال دراستي العليا فقد أصبحت وعلى نحو تدريجيّ  جزءا من عالم آخر يقوم على البراهين والتجارب والصياغات الرياضياتية المحكمة ، ولكن شيئاً فشيئاً تعلّمتُ كيف أتبيّن موضع قدمي وسط ذينك العالمين على الرغم من أنّ جهدي الفائق استلزم سنوات عدّة لكي يتبلور في حالة راسخة . ” ، وهنا نتبيّن بوضوح كامل أن التعارض بين عالمَيْ العلم والروحانيات ليس سوى تعارض كيفي يمكن إزاحته بالجهد الذاتي الخالص للمرء بعيداً عن المواضعات التبسيطية السائدة التي ترمي إلى تكريس الجهل والفاقة وربط العلم بالمعرفة الدينية المتكلسة وجعل الروحانية فضاء جمعياً تسوده “الكهنوتية المستحدثة” المتشددة ، في حين أن الروحانية التي يحكي عنها عبد الكلام في ثنايا كتابه هذا هي نوع من الاستكشاف الذاتي الشفّاف والعميق والصبور والأقرب إلى السياحة في العوالم العرفانية الرقيقة المفعمة بالكياسة والتسامح ورقة الشعور والعواطف الإنسانية الغامرة . ومن جانب آخر يكاد يكون أمراً بديهياً أن نلمح في روحانية عبد الكلام انشداداً إلى الجذور الدينية المشرقية بكل تلاوينها وهي مايمثّل حتماً ملمحاً مختلفاً عمّا نطالعه في أغلب الأدبيات الغربية المختصة بالمذكرات والسيرة الذاتية والتي تطفح بالأنوية الجامحة والتفاصيل الحياتية الغارقة في الحسية والجموح العاطفي .

يختصر عبد الكلام رؤيته للحياة في هذه الكلمات التي جاءت في المقطع الختامي لكتابه ، وأرى فيها نصاً مدهشاً مكتوباً بكياسة وسموّ روح رفيعة تليق بشخصية نزيهة مثل عبد الكلام :
العمل الدؤوب والتقوى ، الانكباب على الدراسة والتعلّم ، الشفقة والمغفرة – هذه كانت دوماً أحجار الزاوية في حياتي ، وقد أمكنني من خلال هذا العمل مشاركة الناس بجذور إيماني بهذه القيم النبيلة ، وأحسب في حقيقة الأمر أن أية حياة عاشها المرء على نحو بالغ الثراء والامتلاء وتحدّث بشأن ثرائها وامتلائها مع الآخرين فإنها ستغدو منجماً من الأفكار والمشاعر التي بوسعها إضافة المزيد من البريق على تلك الأعجوبة التي ندعوها ( الحياة ) . وفي سياق هذه العملية ، إذا ماأتيحت لأفكاري القدرة على منح القرّاء أجنحة تمكّنهم من التحليق بعيداً وتحقيق أحلامهم فأحسبني حينذاك قد أتممت النهوض بأعباء دوري الصغير في مخطط الحياة والذي حمّلني إياه القدر ووضع أعباءه على كاهلي .

توفي  الرئيس الهندي الأسبق زين العابدين عبد الكلام في 27 تموز 2015  وغاب عن دنيانا ذلك الرجل الشاعر الزاهد عاشق الهند الذي أعجبتُ أيما إعجاب بشخصيته النزيهة ومكانته العلمية  في الهند والعالم ، ودفعني إعجابي هذا إلى قراءة مصادر متعددة  عنه ، وليست ترجمتي لكتاب مذكراته هذا من باب الرثاء ؛ فالخالدون لا يموتون ،  بل أرى في عملي  تلويحة وداع لهذه الشخصية الفريدة ومواقفها  المميزة .

سأنشر في القسم القادم تعريفاً بالرئيس الراحل عبد الكلام ، ثم سأعقب ذلك بفصول منتخبة من مذكراته التي سنكتشف فيها رؤية الرجل وعمق روحه النبيلة وشخصيته المستبصرة الشغوفة بالعمل والإنجاز والبعيدة عن توافه الحياة وصغائرها .

________

*المدى

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *