عندما يتكلم الآخر أو فيلم «معركة الجزائر» لجيلو بونتيكورفو

*عبدالله حبيب

إلى أمينة بشير، في الطريق إلى الجزائر التي كان يحلم بها الثوَّار الشهداء ومنهم عمَّها.

-1-

«لماذا ننتظر كَجُلِّنا، هنا في الميدان؟
لأن البرابرة يصِلون اليوم.
لماذا لا يحدث شيء في مجلس الشيوخ؟
كيف يجلس الشيوخ ولكنهم لا يسنون القوانين؟
لأن البرابرة يأتون اليوم.
فما معنى أن يسنّ الشيوخ القوانين الآن؟
عندما يأتي البرابرة، سوف يضعون القوانين.
لماذا صحا الإمبراطور مبكرا اليوم؟
ولماذا يجلس على عرشه، مزينا بالتاج، عند البوابة الرئيسة؟
لأن البرابرة يصلون اليوم.
والإمبراطور ينتظر ليرحب بقائدهم،
وقد جهز كل شيء ليقدم له شهادة فخرية، مليئة بالألقاب والأسماء الهامة.
لماذا ظهر قناصلنا وحكَّامنا اليوم
في مسوحهم الحمراء الموشَّاة؟
لماذا لبسوا أساور مرصعة بالجواهر، وخواتم
من الزمرد البراق؟
ولماذا يمسكون فرحِين بالعُصْي
المشغولة بالفضة والذهب؟
لأن البرابرة يصلون اليوم.
ومثل هذه العصي تخلب لبٌّ البرابرة
أين خطباؤنا المفوهون
ليلقوا خطبهم مثل كل يوم؟
لأن البرابرة يأتون اليوم.
وهم يملٌونّ الخطب وتضجرهم البلاغة
لماذا هذا الفزع والقلق الآن؟
(ترتسم علامات الجد على وجوه الناس)
لماذا تُقْفِر الميادين؟
لماذا يعود الجميع إلى بيوتهم
وقد استبد بهم الغم؟
لأن الليل قد أقبل ولم يأتِ البرابرة
ووصل بعض جنود الحدود وقالوا
انه ما عاد للبرابرة من وجود.
والآن؟ وبدون البرابرة، ما الذي سيحدث لنا؟
هؤلاء البرابرة كانوا حلا من الحلول».
-قسطنطين كافافيس، «في انتظار البرابرة»، نوفمبر، 1898)-

-2-

باعتباره هوية حضارية اتخذت طابع المركزيَّة، قام الغرب تاريخياً بتأسيس تجسيداته «المونولوثيَّة» (أو المؤلَّفة من بؤرة واحدة فقط) على مبدأ الثنائيَّة الضِّديَّة (binary opposition) التي يشكل الأقصاء بيانها الأكثر فداحة؛ فما يُقصيه الغرب هو كل ما ليس بغربي، وكل ما هو ليس بغربي (وبالتالي فإنه بالضرورة ليس «حضاريَّاً») فهو مُقصى بداهة. ولعله مما يثير الانتباه من الناحية «الإيتميولوجيَّة» (أي المتعلقة بعلم تاريخ وأصول المفردات) ان الإغريق، في بدايات الحضارة الغربية، هم من ابتدعوا كلمة «البربري» (barbarous) التي كانت تعني «غير يوناني» أو «أجنبي» ولذلك فإنه لا يتكلم الإغريقية، بل «يبربر» بلغة «أخرى»، وأظن ان هذا منعكس حتى في العاميَّة لدينا هنا في عُمان، حيث يقول أحدنا مستهجناً كلام شخص آخر: «جلس يقول لي بربربربربربربربربر»، اي انه كان يقول لي كلاماً غير مفهوم لفرط سخافته أو حماقته، بل ان بعض الجاليات الأجنبية الموجودة لدينا، كالجالية الآسيوية مثلاً، تستخدم نفس التعبير: («رفيق انته ليش فيه كلام هذا نمونه: بربربربربربربربربر»؟، وأحياناً يقولون: جرجرجرجرجرجرجرجرجر). وما يقوله لك أي قاموس أكاديمي «إيتيمولوجي» محترَم انه مع بدء الحروب «الإغريقو-فارسيَّة» بدأت المفردة تتخذ معنى سلبياً أكثر من أي وقت مضى؛ فقد أصبحت المفردة تعني «ليس إغريقياً وليس ذكيّاً». وفي التطور «الإيتميولوجي» للمفردة أصبحت “barbarous” الإغريقية “barbarian” الإنجليزية التي تعني «همجي»، أو «وحشي»، أو «غير مدني»، حيث انه عبر القرون الطويلة مارس الغرب في النظرية والممارسة إضافة حمولات وترافقات دلالية جديدة إلى المفردة، بحيث اننا لا نزال نسمع هذه الكلمة لغاية اليوم تتردد مثل اللازمة على ألسنة الساسة الغربيين مثلاً وذلك في وصفهم لخصومهم السياسيين في العالم غير الغربي، في الوقت الذي يستخدمون فيه صفات أكثر «ذوقاً» لوصف أندادهم وخصومهم حين يتعلق الأمر بالعداوات التاريخية والأيديولوجية الحادة الواقعة في الإطار الغربي نفسه.

وفي الإطار العربي علينا أن نميّز بين «البرابرة» (في سياق التطور «الإيتيمولوجي» الغربي للمفردة) و«البربر» الذين هم مجموعة إثنية تستوطن بلدان المغرب العربي، وهم السكان الأصليون لشمال افريقيا كما في حالة الأمازيغ في المغرب مثلاً)، ولم أعثر في أي قاموس «إيتميولوجي» أكاديمي على أي علاقة تربط بين «البرابرة» و«البربر».
وهكذا فقد قام الغرب تقليدياً بنكران الآخر حقه في «الخطاب» (discourse). وبمعنى آخر فإن الأمر يعني من الناحية الفلسفية ان الآخر ليس له حق في «الذاتيَّة» (subjectivity). والخطير في المسألة انها لا تمس الجانب السياسي وحده، بل تتعداه لتشمل حقولاً متوازية الأهمية كالجانب الثقافي والفني، وإن كان الأمر يتم في هذا الجانب بطرق أقل مباشرَة، وبالتأكيد أكثر دهاء ومخاتلة؛ وذلك بغرض تمهيد الطريق للجانب السياسي، بل وللجانب العسكري والحربي باعتباره نتيجة طبيعية، وذلك عبر تشكيل وصقل الوعي واللاوعي الاجتماعي والثقافي من خلال رسم صورة الآخر الحضاري وفقاً لمتطلبات الأجندة السياسية واستراتيجياتها.

download (1)
وفي هذا السياق تبرز السينما باعتبارها واحدة من أهم أدوات تشكيل الاستقبال الثقافي في الغرب، حيث ثقافة الصورة هي المسيطرة، وحيث كل ما تقوله السينما والتلفزيون «صحيح». وحين يتعلق الأمر بصورة العرب والمسلمين في السينما ففي وسعك أن تحدِّث ولا حرج، فعلى سبيل المثال يزخر إرشيف هوليوود بكمٍّ هائل يزيد عن ألف فيلم يظهر فيها العرب والمسلمون باعتبارهم مخلوقات عجيبة مثيرة للقرف في تخلفها، وبشاعتها، ووحشيتها، وبدائيتها، و«آخريتها»، وإن كان ذلك، لا يمنع، بل يحفز تحويلها على الشاشة إلى كائنات تقوم بوظيفة التسلية والترويح عن المشاهد الغربي على الوجه الأمثل (1).

إذاً، في هذا الإطار تبرز أهمية فيلم «معركة الجزائر» (1966) للمخرج الإيطالي اليساري جيلو بونتيكورفو الذي، ضمن جوائز وتقديرات أخرى، حصد جائزة الأسد الذهبي في مهرجان فينيسيا السينمائي الدولي لدورة عام 1966، كما حاز على المركز رقم 250 في قائمة عام 2012 من مجلة “Sight & Sound” لأفضل الأفلام التي أنتجت في تاريخ السينما حتى تاريخه، وكذلك حصل على المركز رقم 120 من ضمن أفضل فيلم أنجزت في قائمة عام 2016 من مجلة “Empire”، كما وصل الفيلم الى قائمة الترشيحات النهائية لعدة جوائز سينمائية عالمية مثل جائزة الأوسكار لأفضل فيلم أجنبي، وأفضل سيناريو، وغير ذلك. وقد مُنع عرض الفيلم في فرنسا («بلاد النور والحرية» التي قتلت مليون جزائري فقط) لمدة خمس سنوات كاملة، حيث لم يسمح بعرضه للمرة الأولى إلا في العام 1971. أقول، إذاً، ان فيلم «معركة الجزائر» هذا مبني على نقيضة الأطروحة (antithesis) الثقافية والسياسية الغربية؛ فهو يعترف بحق «الذاتيَّة» و«الخطاب» للآخر وذلك عبر تفكيكه للتركيب بتركيب مضاد يتمثل في إفساح المجال لسرد الآخر، واستعماله في ذلك نفس الوسيلة نفس التركيب: الصورة.

وعلى الرغم من روائيته (أو بسببها، لا فرق) فإنني أعتبر فيلم «معركة الجزائر» عملاً «توثيقياً» بالمعنى الأعمق للكلمة؛ فمع ان الفيلم يعلن في بدايته عبر فقرة مكتوبة بأنه لا يتضمن أية مشاهد مأخوذة من أفلام إخباريَّة سينمائية (newsreels)، إلا ان نزعته السياسية والجمالية – بتركيب بعض المشاهد في استعادة سينمائية لوقائع محددة وقصص فعلية حدثت اثناء الصراع بين الاستعمار الفرنسي والثورة الجزائرية- تخلق معادلاً فنيَّاً للمعطيات الموضوعية والمعلومات الموثقة المتوافرة بخصوص الثورة الجزائرية. ومن هنا، ومع ان مفهوم «الفيلم الوثائقي» ينطوي على عدد لا بأس به من الإشكالات «السينمافلسفية» فإن الجدل الذي أثير حول «وثائقية»الفيلم، بالمعنيين الحرفي والمجازي، يشي بحرفيَّة ميكانيكية وضيق أفق يتغافلان بصورة تثير الريبة عن اعتبارات حاسمة من قبيل الموثوقية التاريخية؛ فعلى الصعيد «السينمافلسفي» يُستنتَج منطقيَّاً وتقنيَّاً من النقد الذي تعرض له الفيلم في عنصر «الوثائقية» ان عمل «فيلم وثائقي» مستحيل أساساً. وذلك، ببساطة شديدة، لأن حتى أكثر المخرجين السينمائيين حَرفيَّة في تعاملهم مع المفهوم لا يستطيعون تجنب ذاتيتهم فيما يبدو للمشاهِد بصورة مظلِّلة انه قرار تقني موضوعي صِرف في العمل؛ ذلك ان المخرج إذا ما أراد أن يصور مثلاً لقطة متوسطة (لماذا تكون اللقطة متوسطة تحديداً وليس مقرَّبة مثلاً في المقام الأول؟) لشخص ما فإن في وسعه أن يستعمل أياً من العدسات الرئيسة الثلاث في آلة التصوير السينمائية، وكلٌّ من هذه العدسات الثلاث يُظهِرُ عمقاً مختلفاً للحقل البصري. كما انه قد يستخدم مَرْشِحَاً (فلتراً) وقد لا يستخدم. وإن كان قد قرر استخدام مِرْشح فإن عليه أن يقرر فيما إذا كان يريد استعمال مِرْشحاً أزرقَ، أو أحمرَ، أو أصفرَ؛ الأمر الذي يعني ان درجات التباين الضوئي للقطة ستختلف حسب القرار، وسيختلف معها الإيحاء العاطفي للقطة. كما انه سيضبط جهاز الغالق الضوئي مُفَضلاً في ذلك إحدى نهايتي الجهاز على الأخرى؛ الأمر الذي سيختلف معه التأثير الدرامي للقطة وفقاً للتفضيل (طبعاً، أتحدث هنا عن آلات التصوير السينمائية الكلاسيكية وليس عن آلات التصوير السينمائية الرقمية الحديثة، فقد تم تصوير فيلم «معركة الجزائر» بآلة تصوير سينمائي من نوع «أريفلكس»، 16 ملم). وجعبتي الكثير من الأمثلة الأخرى مثل زاوية الصوير إلخ، ولكن اختصاراً فإنني أدَّعي ان مقولة «الأداء الموضوعي» الصِّرف في «الفيلم الوثائقي» تدحض نفسها بنفسها، خاصة وان الأمر يتعلق بفنَّان يتحكم بآلة وليس بآلة تتحكم بفنَّان، أي بكائن ينظر إلى العالم بعواطف، ومواقف، ورؤى محددة، وليس بطريقة ميكانيكية (2).

maxresdefault
وعلاوة على ذلك فإن موثوقية وتوثيقية فيلم «معركة الجزائر» تتقاطعان عمودياً مع مفهوم «الوثائقية» في البعد الإنساني للثيمة؛ ذلك ان الفيلم لا يُمجِّد موضوعة (الشعب الجزائري) بطريقةٍ «بروباغانديَّة». صحيح أن الفيلم لا يريد أن يكون لتضامنه مع الجزائريين أن يكون سراً، بل يريد أن يوثقه. لكنه لا يعرضهم، توثيقياً، في المقابل، على انهم كائنات ملائكية أو أبطال أسطوريون؛ بل يصورهم في ظرفهم الإنساني المعقَّد بكل تناقضاته، وطموحاته، ومحدودياته (مشهد العاهرات الجزائريات والقوَّاد الجزائري مثلاً)، بل ان الأمر يفوق ذلك، حيث إن السرد المركزي للفيلم في بدايته ونهايته مبني على وجهة علي لا بوينت، وهو في الحياة الفعلية، دخل السجن لأسباب ليست سياسية بل لأسباب إجراميَّة تتعلق بأنه لص. لكنه في السجن يتعرف إلى سعدي ياسيف (الاسم الحركي في الواقع الفعلي للنضال الثوري: الهادي جعفر)، وهو أحد قادة جبهة التحرير الوطني الجزائري الأسرى، فيقوم هذا بتثقيف «اللص» علي لابوينت و» رَدْكَلَتِه» (نسبة إلى الراديكاليَّة) سياسياً وتنظيمه في الجبهة في السجن، وتكليفه بمهمات، بحيث انه بعد خروج علي لا بوينت من السجن أصبح من الكوادر المهمة في الجبهة. وتحت وطأة التعذيب الوحشي الذي تعرض له سعدي ياسيف (الهادي جعفر)- الذي قام بدور نفسه باعتباره «ممثلاً» في الفيلم مما يزيد من مشْكلَة مسألة «روائية/‏‏‏ وثائقية» الفيلم – اضطر هذا إلى تقديم بعض الاعترافات (وإن كان قد انكر في مذكراته وفي الفيلم معاً ان تلك الاعترافات قد تضمنت إرشاد المخابرات الفرنسية إلى مكان اختباء رفيقه علي لا بوينت. وقد أثبتت وثائق المخابرات الفرنسية التي ازيح تصنيف السرية عنها بعد مدة التقادم الزمني ان كافة وسائل التعذيب الشنيعة التي استخدمت ضده قد اخفقت في الحصول على الاعتراف بالمكان السري لاختباء رفيقه علي لا بوينت على الرغم من انه كان يعرفه بالطبع. وقد صدر حكم بإعدام سعدي ياسيف (الهادي جعفر)، ولكن في انتظار موعد التنفيذ صدر قرار من أعلى المستويات في القيادة السياسية والعسكرية الفرنسية بعدم التنفيذ تحسباً لردة فعل الشارع الجزائري الغاضبة في حال إنهاء حياة واحد من رموزه النضالية الكبيرة). والاعترافات التي اضطر سعدي ياسيف (الهادي جعفر) إلى تقديمها تحت همجية التعذيب الشنيع تجعل المرء يتساءل ببساطة شديدة عما إذا كان جمهور السينما الأمريكية قد شاهد إحدى الشخصيات فائقة الشجاعة والبطولة التي يؤديها مفتول العضلات الأخرق الممثل سِلفستر ستالون وهي تقدم اعترافاً واحداً تحت نكال تعذيب «الأناس الأشرار» (the bad guys) في الاصطلاح الأخلاقي التبسيطي الفج للسينما الأمريكية في أي فيلم. ولا شك أن سؤال «وثائقية» الفيلم يبرز أيضاً بصورة جليَّة في حقيقة ان العديد من الحركات الثورية اليسارية في أوج حضورها في ستينيات وسبعينيات العالم كله تقريباً في القرن الماضي كانت تقوم بتقرير مشاهدة فيلم «معركة الجزائر» على مناضليها في برامجها التثقيفيَّة السياسيَّة باعتبار ان الفيلم «عمل روائي/‏‏‏وثائقي عن حرب العصابات» ينبغي الاقتداء به، وفي الوقت نفسه كانت تقوم بعض أجهزة الاستخبارات في العالم الثالث بتقرير مشاهدة الفيلم على جلَّاديها باعتباره درساً في أساليب الاستجواب والتعذيب التي ينبغي استعمالها! (3).

وإذا كانت الفلسفة الغربية نفسها قد دحضت مفهوم الموضوعية المحض (pure objectivity) معرفياً منذ القرن الثامن عشر في الأقل، لتعقب ذلك إعادة نظر جذرية بين «الذات» و»الموضوع»، فإن النظرية «السينمافلسفية» في القرن العشرين قد انهت ثنائية «اللقطة الذاتية» (subjective shot) و»اللقطة الموضوعية» (objective shot) في منظور السرد السينمائي وذلك في مفهوم «الصورة نصف الذاتيَّة» (half-subjective image) الذي نحته المؤرخ والمنظِّر السينمائي البارع جان ميتري. وإضافة إلى هذا فإنني أخشى أن المنظِّرين والنُّقاد السينمائيين الذين هاجموا الفيلم متعللين بنقاء «الوثائقي الصرِّف» كما في طُهرانيَّة تجريدية سيجدون ما لا يسرهم من منظور «إيتيمولوجي»؛ ذلك ان مفردة «وثائقي» (documentary) في لغة جيرمانيَّة كالإنجليزية، و”documentaire” في لغة من لغات الرومانس مثل الفرنسية (والأمر نفسه ينطبق بدرجات متفاوتة على سائر العائلات اللغوية ذات الاستعارات والتنويعات من اللاتينية) قد انبثقت جميعاً من الأصل اللاتيني للمفردة وهي “docere” التي تعني «يُعَلِّم»، أو «يدرِّس»، أو «ينقل مادة معرفيَّة أو خبريَّة لشخص آخر». ترى ألا يحق لي التساؤل هنا: أليس هذا بالضبط ما يفعله بونيكورفو ضمنياً في «معركة الجزائر» انسجاماً واتساقاً مع تاريخ ومعطيات المفردة/‏‏‏المفهوم؟.

ويثير الناقد والمنظِّر السينمائي الأمريكي إيموس فوغل مسألة في غاية الأهمية حين يكتب أن الفيلم يثير «السؤال الأخلاقي» للموضوع كما في مشهد المناضلة الجزائرية التي تدلف إلى مقهى يغص برواده الفرنسيين وفي حقيبة يدها قنبلة موقوتة، لتتركها هناك ويحدث الانفجار (4). ما أود التوكيد عليه هنا هو ان «التركيب الإخراجي للمشهد» (mise-en-scene) وأسلوب المونتاج (مثلاً: لقطات مقرَّبة لأطفال فرنسيين متداخلة تقطيعياً مع لقطات متوسطة للمناضلة الجزائرية) يثيران فينا ذلك «السؤال الأخلاقي» الذي يشير إليه فوغل على نحوٍ عميق وعلى أكثر من صعيد؛ ذلك اننا نرى ان الثورة، وخاصة إذا ما أُجبِرت على اللجوء للعنف بصورة منهجية لأنه لم يعد أمامها خيار آخر، فإن الثورة ليست بالرومانسية التبسيطيَّة التي تصورها بها الأفلام ذات التسييس الرومانسي والعاطفي الساذجين؛ ذلك ان الثورة، في الحقيقة، تودي بالأبرياء من الطرفين، حيث ان «الثورة ليست زوجاً من القفَّازات البيضاء الناعمة» على حد التعبير الشهير لماو تسي تونغ. لكن ذلك المشهد تحديداً هو ما يجعلنا نتساءل بأسى شديد: ترى، من المسؤول عن هذا كله؟. بكلمات أخرى، يجعلنا هذا المشهد تحديداً ندرك مدى البشاعة واللاإنسانية اللتين تسببهما الممارسة الاستعماريّة لأنها لا تجرِم بحق ضحاياها فحسب، ولكنها لا تترك لهم خياراً آخر سوى أن يتحولوا بدورهم إلى طالبي ضحايا في بحثهم المشروع عن الخلاص، والاستقلال، والحرية.
وفيما يتعلق بالتقنيات الجمالية أيضاً فإن فيلم «معركة الجزائر» يتكئ بصورة خلاقة على أساليب سينما العشرينيات السوفيتية الثورية التي تتكثف – على سبيل المثال لا الحصر – في سلسلة المشاهد الأخيرة للجزائريين العُزَّل الذين يواجهون الدبابات الفرنسية لتصبح مثالاً على «الرمزية الشعرية» في قراءة فوغل، وكذلك في مشاهد النساء الجزائريات اللائي يحملن الأعلام الخفَّاقة، وأيضاً في الأناشيد الإيقاعيَّة التي ترددها الحشود. غير ان ما أود طرحه هنا هو ان تلك البصمات لا تعني ان بونتيكورفو «مُقَلِّدٌ» بصورة ببغائيَّة، بل ان لمساته السوفيتيَّة تأتي في شكل التفاتة تقدير عمليَّة (أو ما يعرف سينمائياً بالـ “homage”)، وهي لمسات تكرس بصورة مبدعة تقنيات راديكالية تاريخية، ولكن عبر رؤية جديدة؛ فعلى سبيل المثال لا الحصر يرينا عبقري السينما الروسية سيرغي آيزنشتاين في فيلمه/‏‏‏ البيان «المدمِّرة بوتِمْكِن» (1925) قِس السفينة مانحاً صلواته للبحَّارة المُدانين قبل إعدامهم وهو ينقر راحته بصليب صغير. ومن أجل الكشف عن العلاقة الوطيدة بين الكنيسة والدولة في روسيا القيصرية بلغة سينمائية صِرف فإن آيزنشتاين يلجأ إلى التقنية المونتاجيَّة «التقطيع الداخلي» (intercutting) و«المجاورة» (juxtaposition) متنقلاً بين القِسِّ وما يفعل إلى لقطة لضابط يمسِّد سيفه. ويكرس بونتيكورفو هتين التقنيتين من أجل الكشف عن العلاقات الضمنية لما يبدو ظاهرياً انه دالَّات غير مرتبطة ببعضها البعض، ولكنه يفعل ذلك بمعالجة «صوتبصريَّة» مزدوجة؛ حيث نرى، مثلاً، مشهد الضباط الفرنسيين وهم يعذبون المعتقل السياسي الجزائري بوحشية، وفي الوقت نفس فإننا نسمع في الخلفية موسيقى باخ في رائعته «آلام القديس متَّى». إن هذه «المجاورة» ذات الوجهة الثنائية لا تجعلنا نشهد على نحوٍ عميق نبل، ومعاناة، وقدسيّة البطل الجزائري الأسير في صدى واضح لما حدث للمسيح (الذي هو من نافلة القول يشكل أحد أهم أعمدة الحضارة الغربية) فحسب، ولكنها –أي «المجاورة»- تبوح ضمنياً بأن مشهد التعذيب البشع ذاك بكل حمولاته الإنسانية إنما هو «نتاج» آخر لنفس الحضارة التي انتجت روائع من قبيل موسيقى باخ، مضيفاً بذلك أبعاداً توليفيَّة وإزاحيَّة جديدة إلى المونتاج «الآيزنشتاني». كذلك فإن الأمر يذكِّرني شخصياً وتلقائياً بنظرية بيير باولو بازوليني في العلاقة بين الصورة والموسيقى في السينما؛ حيث يرى بازوليني ان تلك العلاقة تتلخص اجمالاً في مفهومين رئيسين: الأول هو «التعزيز» (reinforcement) وهو أفقي حيث تقوم الموسيقى بتعزيز الصورة عبر توافق ثيماتي يجعل العنصر الموسيقي يدور في نفس المناخ الموضوعي والعاطفي للعنصر البشري (فمثلاً نسمع موسيقى رومانسية هادئة في الخلفية البصرية لدى التقاء حبيب بحبيبته في حديقة عامة مثلاً). أما المفهوم الثاني فهو «التحويل» (transformation) وهو عمودي حيث تكون الثيمة الموسيقية مختلفة جزئياً أو كلياً عن الثيمة البصرية (بحيث مثلا اننا نسمع في الخلفية البصرية مويبقى عنيفة وصاخبة لذات مشهد لقاء الحبيب بمحبوبته في حديقة عامة) (5). وعلى الرغم من انه لا يوجد إجماع نقدي على أفضل الأمثلة لاستخدام «التعزيز» البازوليني في تاريخ السينما، إلا ان العدد غير الضامر جداً من الأفلام القادمة من مختلف أقطار العالم التي شاهدتها حتى الآن تجعلني أميل إلى الاعتقاد بأن ستانلي كوبرك في رائعته السينمائية الروائية «البرتقالة الآلية» (1971) هو أفضل من استخدم «التحويل»، وخاصة في المشهد «الوثائقي» الذي نرى فيه الطائرات المقاتلة لهتلر في الحرب العالمية الثانية وهي تمطر المدن الأوروبية بقنابلها الفتَّاكة، هذا في الوقت الذي نسمع فيه في الخلفية الصوتية للمشهد التدميري الساحق «قصيدة السعادة» التي تدعو إلى الاخوة والصداقة بين البشر لفردرِك شِلر وهي تُغنى في الحركة الأخيرة من السيمفونية التاسعة لبيتهوفن!. وهكذا فإن بونتيكورفو باستخدامه الفريد لـ«المجاورة» (صوتبصرياً) في مشهده ذاك إنما «يُعزِّز» و«يُحوِّل» بضربة واحدة في نفس الوقت وصولاً إلى حمولات تعبيرية مذهلة، وإشارات فكرية أقل ما يمكن أن يقال عنها انها جريئة ونادرة في تاريخ السينما.

وفي سعيه نحو الالتقاط السينمائي لدفء الحدث وفوريته فإن فيلم «معركة الجزائر» يوظف تقنيات مدرسة الواقعية الجديدة في السينما الإيطالية؛ ومن ذلك الممثلين غير المحترفين الذين يخلقون إحساساً واقعياً بالحدث، وتصوير بعض المشاهد بآلة تصوير سينمائية محمولة باليد (hand-held camera) للإيحاء بأن «المشهد» إنما كان يحدث بصورة عفوية وتلقائية على النحو الذي كان يحدث به، وقد حدث من قبيل «المصادفة» ان كانت هناك آلة تصوير سينمائية لتسجيله. وكذلك اللجوء في المونتاج إلى «القطع المباغِت» أو «القطع القفزي» (jump-cut) الذي من أمثلته في الفيلم انه ينهي الحدث فجأة في منتصفه، أو يبدأ بغتةً حدثاً جديداً في غير بدايته المكانية أو الزمنيَّة المنطقية للإيحاء بالنقل الحي للأحداث، والذي تضرب جذوره – أي «القطع المباغت» أو القطع القفزي»- في سينما عبقري مدرسة الموجة الجديدة الفرنسية جان-لوك غودار. هذا إضافة إلى استعمال فيلم خام ذي درجات تباين (contrast) عالية ومنخفض درجة النقاء بسبب ارتفاع نسبة الحُبَيْبَات الفضيِّة فيه من النوع الذي كان يستعمل في النشرات الإخبارية السينمائية (newsreels) وذلك لتكثيف الشعور بالتسجيليَّة على الطريقة «الروسيلينية» (نسبة إلى روبيرتو روسوليني، أحد الرموز الكبرى للمدرسة الواقعية الجديدة في السينما الواقعية الجديدة – إن لم يكن مؤسسها التاريخي الفعلي- وخاصة في تحفته السينمائية الروائية الخالدة «روما مدينة مفتوحة»، 1945).
ومما تجدر الإشادة به بصورة خاصة في فيلم «معركة الجزائر» هو وجود أسماء للشخصيات الجزائرية، واعتماد اللغة العربية بالطريقة التي تُحكى بها في الجزائر باعتبارها لغة أولى في الفيلم، عوضاً عن إجبار الشخصية العربية على التحدث بلغة الجنسية الأجنبية التي أنتج بها الفيلم غير العربي في الأفلام التي تتعرض لأسئلة وموضوعات عربية (عُدْ إلى حديثي في مستهل هذه الورقة عن الحق في «الذاتيَّة» و«الخطاب»)، وذلك باستثناء بعض الجُمل التي «تُبربِرُ» بها تلك الشخصيات والتي تروق للمشاهد الغربي من باب التسلية والفكاهة من قبيل «إن شاء الله» و»مع السلامة»!. وهذه مسألة في غاية الأهمية حين يتعلق الأمر بتوكيد الهوية الثقافية والحضارية في الانتاج الفني. ولعله تكفي الإشارة في هذا السياق إلى ان رواية «كبيرة» مثل «الطاعون» لألبير كامو – الذي كلنا كنا قد قرأنا في بواكيرنا كتابه «الإنسان المتمرد» باعتباره إنجيلاً تقريباً- والتي تدور أحداثها في الجزائر التي ولد فيها كامو نفسه، والذي يحتفي به المثقفون العرب أيما احتفاء متناسين انه حين سئل في حفل تسليمه جائزة نوبل للآداب عن موقفه المناهض لحركة التحرير الوطني الجزائرية أجاب بتلك الطريقة الاستفزازية الوقحة: «أُمِّي أولاً ثم الحرية»!، وكأن الجزائريين ليس لهم أمهات، لا تحمل –أي الشخصيات الجزائرية في رواية كامو «الطاعون» التي اقتبست في عدة أفلام سينمائية- أية أسماء؛ أي لا هوية لها، وذلك على عكس الشخصيات الفرنسية، ولذلك استحق كامو ذلك النقد الثاقب الذي وجهه له إدوَارد سعيد، وكذلك النقد الحازم الذي وجهه له أيضاً في رواية «الغريب» لذات المنطق الاستشراقي (6). وبذلك فإن استخدام اللغة العربية في فيلم «معركة الجزائر» يأتي لاستبدال موقع «البربري» في التلقي النصي، حيث ان المُشاهد الغربي يضطر إلى «فهم» لغة «البرابرة» بلغته هو نفسه عبر ترجمة الحوار على الشاشة، اذ ليس من المعقول أن تشاهد فيلماً أجنبياً تدور أحداثه في بلاد عربية وشخصياته عربية بينما تتكلم تلك الشخصيات بلغة جنسية انتاج الفيلم. وأظن ان بونتيكورفو في فيلمه «معركة الجزائر» قام بإعادة نظر جذرية إلى «المعقول واللامعقول» (بمعنى “verisimilitude” في النظرية النقدية السينمائية).

وأخيراً، فإنه في هذه المرحلة التي تمر فيها الجزائر بظروف أقل من مثالية بكثير، كم هو حريٌّ بنا حقاً أن «نرى» و«نقرأ» هذا الفيلم مجدَّداً ومجدَّداً من باب التذكير، فلعل فيلم «معركة الجزائر» ينفع الجزائريين.
———————————

*: هذه نسخة مختصرة من مادة أوسع عن فيلم «معركة الجزائر» ستنشر كاملة في كتابي السينمائي القادم.
1. من أجل الوقوف على جرد توثيقي للسواد الأعظم من تلك الأفلام أنظر:
Jack G. Shaheen, “Reel Bad Arabs: How Hollywood Vilifies a People” (New York: Sage Publications Inc., 2003).
2. من أجل الوقوف على نقاش وأمثلة تتجاوز ما ذكرتُ حول الإشكاليات والإلتباسات التي يثيرها مفهوم «الفيلم الوثائقي» أنظر:
Bill Nichols, “Representing Reality: Issues and Concepts in Documentary” (Bloomington and Indianapolis: Indiana University Press, 1991).
وللوقوف على تاريخ السينما الوثائقية ومدارسها المختلفة أنظر:
Erick Barnouw, “Documentary: A History of Non-Fiction Film” (Oxford: Oxford University Press, 19993).
3. هذا الاستخدام المتناقض لفيلم «معركة الجزائر» يزيد من تعقيدات مفهوم «السينما الثالثة». من اجل قراءة هذا «البارادوكس» في فيلم «معركة الجزائر» انظر المجادلة المستفيضة في الفصل الخاص بهذا الفيلم في:
Mike Wayne, «Political Film: The Dialectics of Third Cinema» (London: Pluto Press, 2001).
4. انظر المادة المتعلقة بالفيلم في:
Amos Vogel, “Film as a Subversive Art” (New York: Random House, 1974), 123-5.
وكبديل آخر انظر الترجمة العربية للكتاب: أمين صالح، «السينما التدميريَّة» (بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2002). لا أتوافر على هذه الترجمة لذكر أرقام الصفحات.
5. من أجل الوقوف على تحليل معمَّق لمفهومي بازوليني «التعزيز» و«التحويل» في العلاقة بين العنصر الموسيقي والعنصر البصري في السينما انظر:
Naomi Green, «Pier Paolo Pasolini: Cinema as Heresy» (Princeton University Press, 1990).
6. لمزيد من التفصيل حول نقد إدوَارد سعيد لألبير كامو أنظر:
Edward Said, “Narrative, Geography and Interpretation” in “New Left Review”, no. 18 (London,, March/‏‏‏ Apil,1990), P. 81-97.

__________
*جريدة عُمان.

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *