كيف تُختصَرُ الرّوح؟

*زينب سرور

والآن، عليه أن يختصر ما بداخله. فردوا له مساحةً من سبعمئة كلمة، وقالوا: جُدْ.

جفل. قطّب حاجبيه. مطّ شفتين ورثهما عن جدّه المناضل ضدّ الانتداب. لم يُحدّد أبو الشّفاتير يومًا وُجهة نضاله. كلامه المبهم حول محاربة «انتداب الذّات» قضم ما عداهُ من وجهات.

في مقلتيه، لا أثرَ لجدّه. رأى ذلك في مرآةٍ يحملها في جيبه كيفما توجّه. ابتسم. ما باله لا ينفكّ عن مقارنة نفسه بالرّاحلين؟ في تلك العينين، استــعر شيءٌ ما. ليس نضالاً، ليـــس فعلَ مقاومة، ليسَ هروبًا، ليسَ انصهارًا في تضادّ، ليسَ استغاثة، ليـــس بريقًا، ليس رجاءً، ليس ضعفًا، ليس قوّةً. عبرهما، أراد الاحتــجاج.

ـ لا أستطيع، قالها غير ناطقٍ.

ـ بلى.

ـ قلتُ لا

بدأ بنقطة. فيها تجمّدت الأفكار. مزدحمةٌ ساخرةٌ عاجزةٌ عجوزٌ عقيمةُ. موتٌ قبل الولادة. مقبرةٌ موحشةٌ في أديمها أرواحُ كلماتٍ صدئة. من تحت التّراب يعلو صراخُها، فيخرجُ صمتًا. أصمّه السّكون. أطبق أذنه اليُسرى بكفّ يده المتحررة من القلم. عضّ على شفتيه. وزادَ في الضّغط على النّقطة الملعونة بأصابع اليد الأخرى. توسّعت النّقطة، لكن بقيت أشياؤها جامدة، مأسورة.

جُدْ يا هذا. جُد.

ولكن، كيف تُختصر الرّوح؟ كيف تُختصر حقولُ القمح والشّمندر؟ كيف يُعلّبُ هواء أرضٍ لا حدودَ لها؟ كيف يكون لونُ آلاف الأزهار إذا ما انصهرت في واحدة؟ كيف تجتمعُ عيون ملايين الأطفال في لوحة؟ كيف تُختصر عناقيد العنب؟ كيف يُجمع صوتُ أنينٍ آتٍ من شرق الكون مع رنين ضحكةٍ تلعلعُ من غربه؟ كيف تجتمعُ حشرجة طفلٍ مع جنون الكبار؟ كيف يُضبطُ نَفَس الجميع في إيقاعٍ واحد؟ ألا يعني ذلك انعدام الهواء؟ كيف تجتمع التّناقضات؟ ليلٌ ونهار؟ شمسٌ وقمر؟ يمينٌ ويسار؟ استسلامٌ ومقاومة؟ كيف يوصفُ النسيم؟ الوجع؟ أيّ كلماتٍ تختصر الغربة؟ بأيّ عباراتٍ تُنحتُ قمم الجبال؟ كيف تُختصرُ لهفة الأمّ؟ صوتها؟ ابتسامتُها؟ كيف يُكتبُ حبّها؟ أيّ صعوبةٍ في وصف عطفِ الأب؟ كفّه؟ هل هناك حروفٌ تسع ذلك؟ بأيّ ريشةٍ تُرسم شفاه جدّه المناضلة؟ كيف تُختصر رحلةٌ على ظهر غيمةٍ؟ أيّ نصٍّ يحتملُ مغبّة الاختزال؟ كيف يبدأ حديثُ السّفر في قبلة؟ كيف ينتهي؟ هل ينتهي؟ كيف يُختصرُ الفرح؟ أليسَ في نسيانِ ضحكةٍ يتيمةٍ نوعٌ من الظّلم؟ والظّلم؟ كيف يُوفى حقَّه؟ كيف تُترجمُ أصوات البلابل؟ أيّ نصٍّ يقوى على تهميش طيرٍ طليق؟ جناحاه الحرّان؟ من يقدرُ على رسم أطرٍ للحرّيّة؟ أليست الكلماتُ سجنًا لها؟ أيّ كلماتٍ تساوي أثر التقاء العيون؟ التقاء القوس والوتر، كيف يُصاغ؟ كيف يوصف لقاء الرّيشة مع الوتر؟ كيف يوصف الشّوق؟ الطّمأنينة؟ فراشات الحقول؟ يدٌ تطالُ نجمة؟ يدٌ تداعبُ شعراً؟ رأسٌ ملقًى في حضن؟ معركةٌ تخاضُ أسفل بطنٍ لحظة احتكاك جلدين؟ لذّة التّسليم؟ نسيمٌ يخترق فستاناً؟ قيلولةٌ في حقل بطّيخ غيومُه وافرة؟ صدرٌ يزدادُ اتّساعاً كلّما غزاه عبقُ التّراب بعد الشّتاء الأوّل؟ والشّتاء الأوّل، كيف يوصف؟ أوّل الأشياء كيف يُختصر؟ لأيّ كلماتٍ حقّ انتهاك لذّة استمرار الدّهشة؟ كيف تُحاك حبكة آخر اللّيل وضوء القمر؟ انعكاسُ الأشياء كيف يُقاس؟ الحنينُ إليها؟ الشّوق إليها في الحضور؟ الشّعور بقربها في الغياب؟ كيف تُفتّت الكلمات قياسات المنطق؟ ألا يدور ذلك في فلك المنطق نفسه؟ كيف يُختصر آخر الأشياء؟ ذاك الخطّ الّذي لا لونَ له، بأيّ أدواتٍ يُرسَم؟ أيّ اسمٍ يُطلق على ما بين المراحل؟ ما بين جفنٍ نعسٍ واستسلامه؟ ما بين ضياع نظرة حبيبٍ واستقرارها؟ ما بين هشاشة نبأٍ فرحٍ ويقينه؟ ما بين لذّةٍ ورعشة؟ مَن يملكُ جرأة وصف المعركة؟ كيف تحوط الكلمات النّسيم؟ كيف لها أن تبني له مستقرًّا؟ هذا المتمادي.

ثمّ كيف تختصر شهقة الأجنّة الأولى؟ كيف تُختصر التّفاصيل؟ أيّ إجحافٍ هو ذاك؟ أيّ عبارةٍ تفي الجمال حقّه؟ كيف يوصفُ اشتهاءُ حُسنٍ ورديّ؟ أيّ كلامٍ يقدر على احتواء التّجارب؟ اللّيل، مَن يقوى على كسر هيبته؟ لذّته؟ جماله؟ عظمته؟ أيّ كلامٍ يقوى على خرق سكونه؟ صمته؟ الصّمت، غزت النّصوصُ عالمه ولم تفِه حقّه، مَن يقوى على فهم سرّه سواه؟ كيف تُختصر الحاجة؟ ثمّ ما هو التّفاني؟ الصّبر؟ النّجاح؟ الأمل؟ كيف تتُرجم لذّة الوحدة؟

ببزّته الأنيقة، وربطة عنقه النّبيذيّة، طرق باب الدّار. ظهر له طفلٌ صغير. لا يتوهُ عن تلك الشّفاه. أين جدُّكَ يا فتى؟ قابلهُ الصّمت، ومن خلفه صوتٌ أجشّ. لبرهةٍ خالها دهراً، تسمّرت علامات العجوز. طالع تفاصيله بشغف. الزّمن الغابر العابر، انعدام المسافة بين اللّحظة وذات يوم، انتفاءُ الحاجة إلى التّوفيق بينهما، هما الحاضران متى أراد. تلك الأشياء كيف تُشرَح؟ كيف تُختصَر؟ كيف تُوثّق؟

شوقُ اللّقاء بالراحلين؟ التّماهي بهم؟ بأعمالهم؟ بصفاتهم؟ عصا جدّه، أيّ لغةٍ تسندُ خشبها المتهرئ؟ ذاتُ ذاك العجوز، مَن يقوى على إدراك معركتها؟ كيف تُختصَر سنون من الصفاء؟ ذاتُه، أيّ كنبةٍ تسعُ أرجلها الممشوقة؟

عاد. الأشياء ما زالت جامدة. اتّسعت النّقطة، فأضحت أكبر من أن تُحتوى. التهم حبرُها المحيط، ومع ذلك اتّسعت المسافات بين الشّواطئ. للمرّة الأولى منذ زمن، مزّق الورقة. استلّ أخرى. أحضرَ قلماً جديدًا، فكان ما سطر:

لولا الرّوح، لبقيت كرّاسات الموسيقى نصوصاً ميتة.

طواها، دسّها في جيبه إلى جانب المرآة الصّغيرة، ومضى.

—————–

*السفير

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *