يواجه الذين يكتبون عن المفكرة الألمانية حنة أرنت Arendt صعوبة في تصنيفها، تصر هي أنها ليست فيلسوفة رغم تخصصها في الفلسفة وتتلمذها على اثنين من أشهر الفلاسفة المعاصرين لها هما مارتن هايدغر وكارل ياسبرز وما تفيض به كتاباتها من اشتغال فلسفي مكثف، كما أنها لا ترى نفسها مؤرخة أو عالمة سياسة رغم هيمنة التاريخ والعلوم السياسية على مؤلفاتها، نظرا لأنه لا التاريخ ولا العلوم السياسية هي تخصصها. تفضل أن توصف بـ«منظّرة سياسية»، وقد يكون هذا الوصف دقيقًا فعلاً لأنه يجمع بين الرؤية الفلسفية والانشغال برصد الأحداث وتحليلها، والتنظير ضرب من الفكر دون شك وليس بمقدور أحد أن يكون منظرًا ما لم يتمكن من الفلسفة، أو فلسفة العلم الذي يتخصص فيه.
غير أن تنظير أرنت السياسي على ما فيه من عمق فلسفي واستيعاب للتاريخ والسياسة يخرج عن المألوف من حيث أنها كانت إلى جانب ذلك ناشطة سياسية تعمل وتتفاعل مع الأحداث.
انتماؤها اليهودي وحياتها في ألمانيا في خضم التطورات التي أدت إلى صعود النازية ثم الحرب العالمية الثانية والنشاط الصهيوني بعد ذلك في تأسيس إسرائيل كانت عوامل حاسمة في تشكيل رؤيتها للأحداث وما قامت به من جهود وأنتجته من أعمال ما تزال تشد الباحثين وتجعلها بتعبير غرامشي مثقفة عضوية بامتياز. ولا شك أن بعض تفاصيل حياتها الشخصية – علاقتها العاطفية بالفيلسوف الألماني هايدغر بشكل خاص – ألقت بألوان أخرى مختلفة تمامًا على سيرتها وإن لم تخل من صلة بنشاطها الفكري والسياسي. وأود في هذا المقال والذي يليه أن أسلط بعض الضوء على جوانب مهمة من نشاط أرنت على الصعيدين المشار إليها، الفكر والسياسة.
لقد اتسمت حياة حنة أرنت بالجدل، شأن كل المفكرين الذين تركوا أثرًا عميقًا في المجالات التي عملوا فيها، لكن ظروف نشاطها من حيث كونها يهودية منتمية للعمل الصهيوني في بداية نشاطها ثم معارضتها له بعد ذلك، وتأليفها في موضوعات كبيرة وحساسة مثل الهيمنة السياسية والحرية والعنف، زاد من معدل الجدل في نشاطها الفكري والعملي.
بعد دراستها للفلسفة على يد عمالقة في الفكر الألماني مثل مارتن هايدغر وكارل ياسبرز وجدت أرنت نفسها في خضم الأحداث المرعبة التي رافقت سيطرة النازية على مقاليد الأمور في ألمانيا، ومع اتساع نطاق الملاحقات النازية لليهود استطاعت أرنت الهرب إلى فرنسا. كان ذلك عام 1933، مع أن عملية هروبها لم تكن سهلة، فقد سجنت لفترة قصيرة ثم أطلق سراحها لتخرج من ألمانيا مرة أخرى.
كانت في السابعة والعشرين من عمرها (فهي من مواليد عام 1906) وأنهت رسالة الدكتوراه وهي في الرابعة والعشرين في الفلسفة، الأمر الذي يفسر اتصالها المبكر وعلاقتها بهايدغر، العلاقة التي كانت من القوة بحيث أن أرنت صدمت حين علمت بتأييده للنازيين ورفضه التراجع عن ذلك حين كتبت له ترجوه أن يؤكد أن ذلك غير صحيح. غير أن مواجهتها للنازية واضطهاد النازيين لليهود من ناحية، وعلاقتها العاطفية بمن كان مؤيدًا للنظام المضطهد لليهود، أدى إلى اهتمام مبكر بمسالتين كبريين ومتداخلتين من وجهة نظرها: النظام الشمولي، ومعاداة السامية. جاء ذلك في أولى مؤلفاتها الرئيسة وأحد أشهرها: «أسس التوتاليتارية».
يتألف كتاب «أسس التوتاليتارية» من ثلاثة أجزاء أعادت أرنت كتابة بعضها وإضافة مقدمات على مدى السنوات التي اقتضتها طبعاته المختلفة منذ نشره أواسط القرن العشرين. ويتضح للقارئ أن «معاداة السامية» التي تشكل الجزء الأول كانت المحرض الأساسي على تأمل المفكرة الألمانية اليهودية في موضوعها الرئيس، أي التوتاليتارية أو الشمولية سواء أتمثلت في الحكم النازي أو الحكم البلشفي في عهد ستالين بوجه خاص. في مقدمتها للطبعة الأولى من الكتاب، في صيف عام 1950، تتحدث أرنت عن كيفية فهم حركة التاريخ وأنها تقتضي تفاديا للتفاؤل أو التشاؤم السهلين، مثلما أنها تقتضي الاستيعاب الواعي للحقائق، الاستيعاب المؤسس على القناعة بأن ثمة ما لا يمكن استيعابه، أن التاريخ مثقل بما هو شنيع وفظيع، دون أن يؤدي ذلك إلى التخلي عن محاولة التحليل والاستيعاب. ثم تصل إلى المثال الذي يوضح ما تقصد: «بهذا المعنى يمكن مواجهة وفهم الحقيقة الفظيعة المتمثلة في أن ظاهرة صغيرة (وغير مهمة في عالم السياسة) مثل المسألة اليهودية ومعاداة السامية يمكن أن تكون عاملاً مساعدًا، أولاً، في ظهور الحركة النازية، وبعد ذلك في نشوء حرب عالمية، وأخيرًا في تأسيس مصانع الموت».
تناول أرنت لمعاداة السامية ينقلها من مستوى التفاصيل الصغيرة وغير المهمة إلى مستوى بالغ الأهمية، وأي مستوى أقل من أن تكون محرضًا على حرب عالمية.
المواجهة التي تشير إليها هي مواجهة التقليل من شأن تلك الظاهرة، المواجهة التي تنهض بها في محاججة فكرية وتاريخية عميقة وقوية.
وإذا كان التقليل من شأن الظاهرة يحتاج إلى مواجهة، فإن هناك حاجة أيضا إلى مواجهة ليس مع المبالغة في إعطاء الأهمية لتلك الظاهرة، وإنما مع من يلبسها لباسًا أسطوريًا. المقللون في الغالب من غير اليهود، ومن حججهم أن اليهود كانوا مهيمنين، في حين أن اليهود يقعون في الغالب أيضًا في الفئة الثانية، ومن حججهم أن اليهود هم الضحايا دائمًا. تفسر أرنت معاداة السامية التي كانت وراء الهولوكوست تفسيرًا علمانيًا مختصره أن اليهود عندما كانوا يملكون القوة الاقتصادية والتأثير السياسي في المجتمع كانوا محل احترام العامة التي لا ترى غضاضة في الاضطهاد طالما أن من يمارسه يمتلك التأثير الاقتصادي والسياسي، لكن اليهود فيما بعد فقدوا تأثيرهم السياسي مع احتفاظهم بالثروة مما جعلهم محل احتقار ورفض بوصفهم عالة على المجتمع.
هذا التفسير لم يرق للكثير من اليهود ممن يؤمنون بتحليلات مغايرة لا سيما تلك المتكئة على مقولات دينية أسطورية مثل الشعب المختار.
يتضح إذا أن أرنت كانت تخوض مواجهة مزدوجة على مستويين، مستوى المؤرخين والمحللين السياسيين الغربيين من غير اليهود، ومستوى الجماعات اليهودية التي تنتمي إليها.
هذه المجابهة الثانية ستؤدي إلى الموقف الحاد الذي اتخذته أرنت من إسرائيل وبعض زعامات اليهود حين حضرت المحاكمة الشهيرة لأدولف آيخمان في إسرائيل في ستينيات القرن الماضي. في التقارير الخمسة التي بعثت بها أرنت إلى مجلة «النيويوركر» بعد حضورها المحاكمة شجبت أرنت المحاكمة والحكم وأدانت الزعيم الإسرائيلي بن غوريون على أساس أن ما فعله كان عملاً آيديولوجيا هدفه تثبيت شرعية إسرائيل وذلك بمحاكمة وإعدام رجل لم يكن هو المسؤول عن المحرقة النازية وإنما الأداة التي وظفها الحكم النازي.
الكتاب الذي تأسس على تلك التقارير تضمن رأيا رفضه الصهاينة عامة والإسرائيليون ومناصرو إسرائيل بشكل خاص، ليس في نقده الحاد لإسرائيل فحسب، وإنما في وصفه لآيخمان بأنه مجرد موظف يؤدي عمله دون أن تكون لديه قناعة بما يفعل.
اتضح ذلك من عنوان الكتاب: «آيخمان في إسرائيل: تقرير حول تفاهة الشر» (1963). لقد سبب ذلك الكتاب الكثير من المتاعب لأرنت، لكنها أصرت على أنها لم تفعل أكثر من قول الحق في وجه القوة، أنها لم تحاب أحدًا وإنما فعلت ما تراه ضروريًا ونافعًا.
________