إدوارد ألبي غزا مسارح العالم بعبثيته

*هناء عليان

إدوارد ألبي، الذي رحل قبل أيّام في منزله النيويوركي الهادئ، هو أحد روّاد المسرح العبثي الأميركي في حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية. وتُصنّف أعماله المسرحية، هو الحائز ثلاث جوائز بوليتزر، من بين روائع رواد المسرح الأميركي الحديث من أمثال آرثر ميللر وتينيسي وليامز ويوجين أونيل ورواد المسرح العبثي العالمي من أمثال صموئيل بيكيت وأوجين يونسكو وهارولد بنتر. ومثله مثل معظم هؤلاء الرواد لقيت مسرحياته رواجاً في العالم العربي قراءة وإخراجاً.

أمضى ألبي حياته الإبداعية تحت الأضواء متنقلاً بين مسارح برودواي التي عرضت أعماله لعقود وكرسته كأحد أهم مبدعيها، لكنّ حياته الشخصية بقيت ملكاً له وحده. لم يَخفِ أنه مثلي، لكنه رفض وسمه «ككاتب مثلي الجنس»، قائلاً: «أنا ببساطة كاتب صودف أنه مثلي». وقد آثر في محاضراته الجامعية التطرق فقط إلى طفولته الصعبة وبداياته الفاشلة، ليكون ملهماً لطلابه.

«كنت يتيماً»، هكذا استهل ألبي، إحدى محاضراته الأخيرة، كما لو أن هذه العبارة القصيرة تختزل حياةً كاملة. في الواقع، ليس غريباً أن يكون صاحب مسرحية «من يخاف فرجينيا وولف» اللاذعة، قد عاش حياة متقلبة جداً، تسير فيها التغيرات الشخصية بمحاذاة المهنية إلى حد مخيف.

تخلى عنه والداه فور ولادته، فتبنته عائلة ألبي الثرية مالكة العديد من المسارح في واشنطن، ليعيش حياة أرستقراطية لا تمت إلى طبيعته بصلة، هو المتمرد على القوانين والتقاليد الدينية والاجتماعية منذ الصغر. وعلى رغم غياب الرعاية والمشاعر الأبوية الدافئة، أغدق ريد وفرانسيس ألبي عليه من ثروتهما ليتلقى أفضل تعليم ممكن، لكنه طُرد من معظم المدارس الخاصة التي ارتادها لرفضه التقيّد بنظامها. وهذا السلوك أفقد والديه بالتبني متعة الاهتمام به وكأنه «غرض فقد بريقه بعد شرائه»، إلى أن طرداه تماماً من المنزل وهو في سن العشرين بعد إصراره على أن يصبح كاتباً.

عبث الحياة والمسرح

على صعيد مهني مشابه، انبهر جمهور المسرح والنقّاد بألبي، كنجم الكتابة المسرحية الصاعد عندما اجتاح مسرح نيويورك في مطلع عام 1960، عبر مسرحيته اللامعة «قصة حديقة الحيوان» التي تلتها سلسلة مسرحيات ناجحة مثل «فرجينيا وولف» و«صندوق الرمل» و «الحلم الأميركي».

حينها سطع كرائد في ما اصطلح على تسميته بمسرح العبث ومسرحية الفصل الواحد. فتهافت عليه المنتجون، ليجد لاحقاً أن كثيرين فقدوا اهتمامهم به ككاتب ناضج، لا سيما بعد «لوليتا» و «رجل بثلاثة أذرع».

انتهت حربه الشخصية مع والدته بعد ثلاث سنوات من نجاحه ككاتب مسرحي، وكذلك مع النقاد بعد «ثلاث نساء طويلات» (1991) التي استلهمها من شخص والدته. وهي المسرحية التي جعلته الوارث الشرعي لكل من ويليامز وميللر.

وكما حياته الشخصية، شغلت إيقاعات الحب والكراهية مسرحيات ألبي إلى حد كبير. وفيها تكرست ثيمات متناقضة مثل: التفاني من أجل الآخر ورفضه، القبلات والصفعات، التصفيق والانتقاد.

في بداية العام 1958، ومع اقتراب عيد ميلاده الثلاثين، شعر إدوارد ألبي بعدم الرضا والفراغ التام.

 وعلى رغم أنه أحب الكتابة كثيراً، لم يستطع تحديد وجهته. فشل في كتابة الشعر، ولم يتمكن من كتابة القصة القصيرة، فتملكته فكرة واحدة وهي أنه سيصبح مثل معلمه «ويليام فلاناغان»، أسيراً لطموحاته الأدبية التي لن تصل إلى أي مكان. لكنه في شباط (فبراير)، وقبل شهر واحد من عيد ميلاده، جلس على كرسي قديم أمامه طاولة متهالكة، وشرع يكتب على آلة طابعة فكتب مسرحيته الأولى بسهولة مطلقة: «الأسطر تتدفق بسرعة كنوع من الانفجار. وهكذا لم تتوقف الكلمات».

اختار «قصة حديقة الحيوان» عنواناً للمسرحية، وهي تدور حول شخصين مختلفين تماماً يمثلان الصراع الطبقي، هما بيتر وجيري، بحيث يلتقيان في ظهيرة أحد الأيام في حديقة السنترال بارك. جيري يمثل الإنسان المقهور المغلوب على أمره والذي يصاب دوماً بالإحباطات المتواصلة، وهو لا يملك أي شيء سوى غرفة في بناء حقير يضج بالفقر والمرض والجنون؛ وبيتر وهو بورجوازي صغير يعمل في دار للنشر، متزوج وله ابنتان ويعيش في عالم مختلف بحيث يحافظ على تقاليد حياة ثابتة منظمة يصعد فيها السلم الاجتماعي خطوة خطوة، قانعاً بحياته، طامحاً لزيادة ملكيته.

يتخلل الحوار بينهما سخرية لاذعة من الواقع الأميركي الرأسمالي المرير، وينتهي اللقاء في شكل عبثي بحيث يدفع جيري بيتر تدريجاً عن المقعد ومن ثم يرمي له بسكين ليلتقطها ويدافع بها عن نفسه، لكنه لا يلبث أن ينقض بنفسه على السكين فيبدو الأمر كما لو أن بيتر انتزع أحشاءه.

يتجسد العبث في هذه المسرحية في الصراع مع قوة غاشمة لا فكاك منها، في تلك النزعة التدميرية للنفس داخل مجتمع قاس يسحق الإنسان ليتحول إلى حيوان شرس.

لا شك أن غرابة الأحداث دفعت المنتجين إلى رفضها في الولايات المتحدة. وعلى رغم أن أحداث المسرحية تدور في نيويورك، كان على ألبي السفر إلى ألمانيا الغربية ليجد من يوافق على إنتاجها، فعرضت المسرحية هناك للمرة الأولى بعد ترجمتها. عقب نجاحها في ألمانيا، كتب أحد النقاد في «نيويورك تايمز» مقالة ترثي حال المسرح الأميركي بحيث «يتوجب على كاتب أميركي لامع أن يتوجه إلى برلين لإنتاج مسرحيته وعرضها».

أدت هذه المقالة، فضلاً عن أصداء المسرحية الجيدة، إلى إنتاجها في برودواي وظلّت تعرض ثلاث سنوات ونصف سنة. «استقللت من عملي كساعي بريد وكتبت المسرحيات على مدى خمسين عاماً… تلك كانت هدية عيد مولدي الثلاثين التي قدمتها لنفسي»، يقول ألبي.

في العام 1961، كتب ألبي مسرحية «من يخاف فرجينيا وولف» التي تحولت إلى واحدة من روائع المسرح العالمي في القرن العشرين، وتم اقتباسها في فيلم من بطولة إليزابيث تايلور. اختار ألبي شخصية الروائية فرجينيا وولف، التي انتحرت بسبب مشكلاتها النفسية، كرمز للموت والتفكك واهتراء المجتمع الأميركي القائم على الأكاذيب والمظاهر الخارجية الخادعة خلال ستينات القرن العشرين. الخوف من فيرجينيا كان الخوف من مصيرها. وتبرز في المسرحية شخصية مارثا، التي لا تنفك عن استفزاز زوجها جورج. ومع قدوم «الضيفين» إلى منزلهما تتوالى الأحداث بحيث يفضح كل منهما الآخر لجهة الخيانة والعجز وزواج المنفعة.

لطالما تميزت كتابات ألبي بحس نقدي لاذع للمظاهر الخادعة في المجتمع الأميركي، بحيث دأب على تقديم حقائق الحياة اليومية في مختلف مستوياتها. وعلى رغم أنه توقف عن الكتابة لعقد من الزمن، إلا أنه عاد وفاجأ جمهوره عام 1991 بمسرحية «ثلاث نساء طويلات».

ثلاث نساء

النساء الثلاث هن شخصيات أو أعمار حياة امرأة واحدة، استوحاها ألبي في شكل شبه تام من والدته بالتبني. فتاة انتزعها حرص أمها المبالغ به من طفولتها، ليزرعها بين يدي أول شاب يطلبها للرقص، وبدخولها حلبة الرقص تجد أنها غادرت ساحة طفولتها إلى الأبد. هكذا تحولت في ليلة واحدة من فتاة إلى امرأة لا تعرف كيف تواجه واقعها الجديد، ولا تعي أصول التعامل معه. هي فقط تبحث عن مبرر مقنع لتصرفها غير حجة الوقوع في الحب التي لا تُقنع أمها على الإطلاق. وأخيراً هناك المرأة التي تختار الهروب من المأزق عبر الزواج برجل مسن، مشوه العين، يحاول ملء فارق السن بالفارق الطبقي والمادي بينهما.

ثلاث نساء هن مراحل مختلفة في عمر واحد، امتد من الشباب إلى النضج إلى الكهولة ثم انتهى إلى الموت، عارضاً لما يحدث مع المرأة الابنة، والمرأة الزوجة، والمرأة الأم. حازت هذه المسرحية جائزة «بولتزر للدراما» عام 1994 للمرة الرابعة.

لاقت أعمال ألبي نجاحاً جماهيرياً لكونها تضمنت ثيمات تلامس الحياة الحقيقية ومنها فضح الأخطاء والغرائز، والمشاعر الانتقامية والكراهية المتوارية بين أفراد العائلة الواحدة وبين العائلة والمجتمع. أبرزها مسرحية «الحلم الأميركي» حيث لا شيء يقف وراء الحلم ويبقيه حياً سوى العنف والغريزة. في هذه المسرحية، بدأ ألبي يظهر ككاتب محترف، ومن هذه المسرحية بدأت لغته تميز نفسها وتتفرد. اشتهرت المسرحية بشخصيتي «مامي» و»دادي» والجدة التي تسيء ابنتها معاملتها وتهددها بالتخلص منها، إنها الجدة نفسها في مسرحية «صندوق الرمل» التي تُترك لتموت فيه على الشاطئ. ويفهم من كلام الجدة أن الزوجين تبنيا طفلاً قبل عشرين عاماً ليجلب لهما الفرح، لكنه فشل في ذلك فقاما بتعذيبه وتشويه أعضائه والتنكيل فيه إلى أن مات، والآن يريدان استرداد نقودهما عبر السيدة باركر مسؤولة مؤسسة التبني التي باعتهما طفلاً معطلاً، لا يجلب الفرح كما كان الغرض منه. ولا حاجة للقول أن ألبي كان يسرد هنا معاناته الشخصية بتفاصيلها.

————————-

*الحياة

شاهد أيضاً

“أثر على أثر” معرض لمفاضلة في المتحف الوطني

(ثقافات) “أثر على أثر” معرض لمفاضلة في المتحف الوطني برعاية العين د. مصطفى حمارنة ينظم …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *