قراءة في رواية هذيان نواقيس القيامة لمحمد جعفر

*خاص- ثقافات

*أحمد بوريـــدان

  قرأت العديد من المقالات النقدية لرواية هذيان نواقيس القيامة والتي اهتمت في مجملها   بدراسة الشكل والمضمون لكنني لم أقف على دراسة تهتم صراحة بالدلالات والإيحاءات الخفية التي  تضمنها النص ولم يتفطن لها القارئ، فهذا المقال هو محاولة  لتسليط الضوء وفتح باب التأويل في عتمة اللغة بتعدد القراءات والدلالات والتي لا يمكن أن تختزلها بعض الأسماء التي وظفها الكاتب بعناية فائقة في خدمة قضية الوعي  واللاوعي ودورها في بناء واكتمال الصورة الفنية لهذه الرواية التي تخطت تقاليد السرد الروائي ببنيتها الإبداعية المضبوطة حسب ما ذكر بعض النقاد.

   نظرا للتغيرات والتحولات والقلاقل والاضطرابات السياسية التي عرفتها الجزائر منذ الاستقلال  والتي أحدثت خلخلة في بناء المجتمع الجزائري وحتمت عليه أن  يفقد توازنه وبعضا من خصوصياته الأمر الذي أدى إلى توتر العلاقات بين الأفراد وتلاشت القيم حتى أضحى الجزائري يعيش وسط حالة من الفوضى والإحباط وحالة من الجنون        والهذيان وحالة من الخوف والترقب لحدوث ثورة  أكيدة أو قيامة شاملة.

  الرواية هي محاولة جادة في البحث عن عمل إبداعي يستوعب متطلبات الواقع بتناقضاته وانكساراته  وهي أيضا محاولة لتفكيك عميق للوعي واللاوعي  الجمعي بعدد مستوياته  وتعدد شخصياته كما هي محاولة لتسليط الضوء على الأزمة المصيرية  التي يواجهها الجزائري بتراكماتها وانعكاساتها السلبية ( إننا نعيش في بلد مجنون .أنا لا أفهم كيف تقرر السلطات رفع الضرائب في عز الأزمة.. وكأنهم يستعجلون ساعتهم. ص51) والحقيقة أن الكاتب يحاول أن يشير إلى وسيلة تتعمدها الأنظمة الدكتاتورية لفرض السيطرة والطاعة العمياء والتحكم في مصير الشعوب وذلك بالرفع من الأسعار والضرائب حتى ينشغل المواطن بتدبير معيشته وتأمين المستقبل من جوع قد يأتي لاحقا فلا يهتم المواطن بالسياسة ولا يفكر خارج حدود بطنه ، عملا بالمثال الشعبي المعروف عندنا ( جوّع كلبك يتبعك) أوعملا بنظرية بافلوف والمنعكس الشرطي ولا نجد ناقوسا أخطر وأنجع من نواقيس بافلوف في ترويض وتدريب الحيوانات ( كلما ثارت المدينة ،إلا وكانت غضبتها من هذا الحي العريق،هنا يسكن البسطاء والمحرومون، ومن هنا تنطلق شرارة كل تمرد لأن الجياع أول من يصرخ.ص84)

   مجتمع مثقل باليأس والأحزان والخيبات يسيطر عليه اللاوعي واللاشعور إلى  حدود الهذيان  والجنون في محاولة الوصول إلى تحقيق نزعاته ورغباته المكبوتة ، فالرواية هي محاولة للخروج من هذه الحالة باكتشاف الوعي واليقين الذي يجعل الحياة ممكنة (..ألا يعتبر مجموع ما يقدمه المبدع إلا نشرية من نشريات حياته منثورة هنا وهناك وبشكل مقصود ومضمر في أحايين أخرى.. أليس ما يقدمه إلا مجموع أحلامه وأفكاره           وهواجسه ورؤاه وشيء من نبضه وحياته.. هل كان لي أن أحيد عن هذه القاعدة ، ونحن نعيش أصلا في مجتمعات منغلقة ترغب دائما في الكتمان والتستر على خصوصياتها ضد كل عيب يمكنه أن يتهددها أويطالها.. ص44)

  فكما لخص كاتب ياسين الجزائر في صورة امرأة فكذلك فعل محمد جعفر ولخص الجزائر في صورة مريم، ليست مريم العذراء ولا العابدة الطاهرة،هي مريم بحر الأحزان والآلام هي مريم التي لم تحصن فرجها،مهرة مبهرة تمنى الكثير من الرجال ركوبها وماتت بجنين في بطنها مجهول النسب ربما هوالحلم الذي راود الكثير من شعوب الربيع العربي ، هي امرأة على قدر من الجمال الذي يثير الغرائز  حتى وهي جثة هامدة ، مريم هنا هي القتل الرمزي للعديد من الأحلام والآمال،مريم العربي ربما هي الجزائر التي أنجبها بومدين ـ الرئيس الراحل والذي حاول أن يعرّبها ولوبلقبه ( العربي) لكنها اختارت الغربة         والاغتراب لتعود بخيبة كبيرة ،  فكانت عرضة  لاستغلال العابثين، من أجل إشباع الأنا الغريزية ،فمريم هي امرأة لا ترتوي ولا تشبع ولا يكفيها رجل واحد.

 مريم / الجزائر التي  تحتاج إلى ثورة حقيقية ثورة واعية تبعث فيها روح الخلق           والانبعاث من جديد،فهذا موّحد جابر ـ من شخصيات الرواية ـ  الذي يكتشف (أن الحلم وجه آخر للتعاسة أوأنه كان التعاسة نفسها عندما لا يشاء أن يتحرر من عقال الوهم الذي يأسره فيتحوّل إلى حقيقة وواقع يتحقق حال اليقظة كما يشاء ويتمنى. ص148) فهل يمكن أن تكون اليقظة  ويكون  الوعي طريقا للتحرر من الزيف والنفاق الديني والاجتماعي ؟

   هذيان نواقيس القيامة رواية تشتغل على التوظيف الدلالي للرموز،هي رواية جريئة         ومستفزة وهي شكل من أشكال الرفض ضد سلطة العنف والتعسف ، وترسم خريطة الوعي الممكن لتحقيق كل ما هوجديد ومختلف بحسب القناعات الفكرية والثقافية للكاتب.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ـ هذيان نواقيس القيامة رواية للكاتب محمد جعفر منشورات ضفاف ودار الاختلاف الطبعة الأولى 2014.

 

شاهد أيضاً

رواية “قناع بلون السماء”…ملامح الهوية الفلسطينية بين التحقق والذوبان

(ثقافات) رواية “قناع بلون السماء”…ملامح الهوية الفلسطينية بين التحقق والذوبان  صفاء الحطاب تذهب بنا رواية …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *