*أحمد شوقي علي
لدى الصحافة ديباجة يستهلكها صحافيون كثر كاستهلال يبدأون به أي “بروفايل” يُكتب عن فنان مهما كان نوع فنه، كأن يقول أحدهم “إنه الفنان الرائع، الخطير، الأديب العالمي، الموسيقار الجبار، التشكيلي الفذ… إنه فلان”، وكأن صاحب الصياغة الأصلي مُعلن في بوتيك، أو “إنه” فؤاد المهندس.
يطمح أي ممثل أن يخلد ذكره، ولو بدور وحيد يؤديه في حياته، لكن فؤاد المهندس (6 سبتمبر 1924 – 16 سبتمبر 2006)، الذي حلت، أمس الثلاثاء، ذكرى ميلاده الـ92، فيما ستحل ذكرى وفاته العاشرة قريباً، استطاع من خلال أعماله الفنية التي تجاوزت المئة، ليس تحقيق خلوده فحسب، بل وتشكيل جزء ضخم من اللغة الوصفية الهزلية لجانب كبير من حديث العامة، وهي لازمات ابتكرها في أعماله التي يصعب حصرها، مثل “المكنة طلعت قماش”، “سيبيه يمسكها يا فوزية”، “مش عاجباك نادية.. خُد سوسو”، “اكتبوها يمكن تنفعكم”، “إنسان أنوي نادر”، “أنا ورقة”، “راحت تجيب ورقة بوسطة”، “أنت اللي قتلت بابايا”، “طويل العمر يطول عمره وينصره على من يعاديه”… وغيرها. ولا يدل ذلك على طرافة ما قدمه المهندس فحسب، وإنما على قدرة تلك الأعمال كلها على النفاذ إلى وعي المشاهد وتشكيله عبر الزمن باختلاف تطوراته.
عندما كنت طفلًا، في الثمانينات من القرن الماضي، لم أنجذب إلى فؤاد المهندس عبر فوازير “عمو فؤاد” التلفزيونية، الذي استمر يقدمها لمدة 18 عامًا، وإنما جذبني فيلمه “العتبة قزاز”. كنت بين الجالسين في صالة انتظار لعيادة الطبيب، ولم تكن المرة الأولى التي أشاهد فيها الفيلم، لكنها الأولى التي أشاهده فيها من بدايته. اندهشت لاكتشافي سر القوة الجبارة التي يصير عليها “فرافيرو” بمجرد سماعه أغنية العتبة قزاز. أسرعت عائداً إلى البيت، بعد زيارة الطبيب، لأجد الفيلم وقد شارف على نهايته. ثم أدمنتُ صفحة التلفزيون، كل يوم أحد في جريدة “الأهرام”، والتي كانت تنشر خطة برامج القنوات التلفزيونية الثماني، وكأني كنت أبحث عن “العتبة قزاز” لأشاهده كاملًا، ولو لمرة وحيدة.
ولعل هذا ما جرّني إلى مشاهدة كل أفلام الأبيض والأسود الكوميدية، والتي كانت تُبَث ظهر الخميس في “القناة الأولى”، وصباح الجمعة في “الثانية”. وتعرفت أيضًا إلى أعمال الكوميديان الإنكليزي المدهش، نورمان ويزدم، والتي كانت تبثها “القناة الثانية” عقب صلاة الجمعة. غير أن فؤاد المهندس كان مختلفًا كل الاختلاف عما بدا عليه نورمان ويزدم، أو إسماعيل ياسين، أو عبدالسلام النابلسي، أو علي الكسار، أو حتى نجيب الريحاني. فسرّ نجاح المهندس، الذي شغفت بأعماله طفلاً وشابًا، انه كان يقدم على الشاشة الصورة التي نخجل أن نجاهر بها علناً. كان يحفظ لنا روح الطفولة التي نحب أن نتعرى لها في وحدتنا. تلك الخفة التي كان “يسرسع”(كلمة مصرية تعني الصوت الرفيع) بها، بينما يجري الحديث جادّاً من حوله، أو ذلك الرقص الهزلي الذي كان يؤديه منتشيًا سواء كان مرتدياً بزذته أو سرواله الداخلي. كان يؤدي الطفل الذي نخجل من أن نبدو عليه بكل التلقائية والجرأة التي نفتقدها.
تتسع مداركنا بتقدم السن والمعرفة، فندرك متأخرين، عبقرية نجيب الريحاني الذي كان يضجرنا وجهه العبوس في طفولتنا، أو ندرك معنى تلقيب فؤاد المهندس بالأستاذ. فلم يكن المهندس مجرد كوميديان أصيل يبدع في ما يقدمه، بل كان مُربيّاً على الكوميديا، ليس لجمهوره فحسب، وإنما لمَن يشاركه أعماله من الممثلين، بغض النظر عن تاريخهم الفني. ولعل أبرز مثال على ذلك، الهيئة التي بدت عليها سيدة التراجيديا الأبرز في مصر، أمينة رزق، من خلال مسرحية “إنها حقاً عائلة محترمة جداً”.
وقد أختصرُ مشوار البطولة المطلقة في كوميديا المهندس، في نماذج ثلاثة، ربما مثلت هاجسه الفني الرئيس، وهي شخصيات الجادّ، والمقهور، والشرس. فإما كان جادًا يستعين بـ”الهلس” على جدّيته (هالة حبيبتي- سك على بناتك- إنها حقًا عائلة محترمة – سيدتي الجميلة – حواء منتصف الليل –عائلة زيزي). أو كان مظلومًا يستعين بهَلسِه لمواجهة قهر الحياة (شنبو في المصيدة – سفاح النساء – أرض النفاق – السكرتير الفني – الراجل ده حيجنني –أنا فين وأنت فين). أو كان شرسًا يهزمه الهلس (العتبة قزاز- أخطر رجل في العالم – المليونير المزيف- علشان خاطر عيونك–فيفا زلاطا). غير أن الأخيرة تمثل نقطة مثيرة في مسيرة الراحل الإبداعية. فإن بدا تصوره عن المجتمع الأميركي قاصراً في تقديمه إياه كبوتقة تضم حفنة من اللصوص أو أرض للثراء السريع، إلا أن اهتمامه بتضمين أعماله لشخصيات مثل “ماكس” أو “مستر إكس” أو “سعيد المكسيكي” أو “زلاطا”، وغيرهم، يعكس شغفه الواضح بذلك العالم. أو لعله يعود إلى ولعه –حسبما كشف ابنه محمد- بشخصية “جيمس بوند” التي قدمها الممثل شون كونري. فمن الممكن جدًا أنه كان يتمنى لو صار على هيئة أخرى غير التي كانها، حتى يستطيع تقديم فيلم إثارة وحركة من أوله إلى آخره.