للترجمة أكثر من وجه؛ قد تكون نقل لغة إلى لغة أخرى، وقد تكون ترجمة أشياء تشبه الوحي والإيماء والرمز إلى أبجدية مقروءة، وقد تكون ترجمة مشاعر وعواطف تجول في النفس إلى كلمات، وقد تكون نقل لغة تشكيلية أو معمارية أو موسيقية إلى لغة الكلام. الأشهر بالطبع هو الوجه الأول، أي نقل لغة من مضاربها إلى مضارب لغة أخرى، بكل ما يرافق هذا من تغيير يلم بالحروف أولاً، فيأتي المترجم بحروف من لغة المصدر كما يقال اصطلاحاً، إلى لغة الهدف المختلفة عنها، وتغيير يلم بالأحاسيس فهي هناك مولودة ثقافة ذات خصائص معلنة أو خفية، وهي هنا تحل في وسط أو أكناف ثقافة مختلفة الخصائص.. وهكذا، نتساءل: هل تأخذ الترجمة القارئ إلى عالمٍ آخر غير عالمه المألوف، أم تأتي بذلك العالم الغريب إليه، متخففاً من غربته، قريباً مما يألف القارئ؟ أم يجد المترجمُ سبيلاً إلى مزيج من هذا وذاك، فيتحول النص المترجم على يديه إلى توليفة جديدة لا هي من هذا ولا ذاك؟
هناك نقاط تصلح للانطلاق رغم هذا الاحتشاد والاختلاط، وأفضلُ البدءَ بما لا يمكن ترجمته، ليس بسبب صعوبة الرحلة بين عالمين، بل بسبب آخر قد يخفى على الكثيرين، لا جدوى هذه الرحلة، والإحساس بأن أوانها لم يحن بعد.
لدى هذه البداية صادفني كتاب الإيطالي «ايتالو كالفينو» المسمى «ست وصايا للألفية القادمة» (1993)، وهو كتاب يتضمن شبه وصايا أعدها الكاتب ليلقيها كمحاضرات في جامعة هارفارد الأمريكية في عام 1985، ولكن وفاته المفاجئة قبل السفر تركت على مكتبه خمساً منها، أما السادسة فلم تكن سوى مخطوطة أولية لم تكتمل.
وفكرتُ، نظرا ً لأهمية هذه «الوصايا» في نظري، بترجمتها فور قراءتي لها، إلا أنني تساءلتُ: ما جدوى ترجمة هذه النصوص إلى المناخ الثقافي العربي؟ نحن نترجم لننشر بالطبع، ولكن هذه المحاضرات التي اعتنت بشرح عدد ٍمن القيم الأدبية الغربية التي ولدت وتطورت مع ولادة وتطور اللغات الغربية المعاصرة خلال الألفية الماضية، تبدو منقطعة الصلة بهذا المناخ.
إنها تتضمن إشارات ٍوتلميحاتٍ إلى أعمال وشخصياتٍ أدبية، بل ونصوص تنتمي إلى حقل الثقافة الغربية، أي حقلها الدلالي. وستطرح ترجمتها إلى العربية، أي نقلها من مناخ إلى آخر، مشكلة ً بالنسبة للقارئ العربي، هو لن يفهم في وضعيته الراهنة إشارة أو تلميحاً إلى مرجعية أخرى لاحظ له فيها.
ومما يزيد الأمرَ تعقيداً أن مرجعية هذه المذكرات تقع في حقلٍ واسع متعدد اللغات من إنجليزية إلى فرنسية، إلى إسبانية، إلى إيطالية إلى لاتينية. واكتشفت أن ترجمة هذا الكتاب تقتضي أن ترافقه ترجمة ٌ لثقافة الحضارة الغربية بمجملها، أو نصوصها الأساسية على الأقل، لأن ترجمة هذا الكتاب إلى العربية من دون هذا، تحمل في طياتها افتراضا ً غير صحيح، وهو أن القارئ العربي يمتلك معرفة ً شاملة بهذه الثقافة.
هذه مشكلة أولى في الترجمة يتجاوزها البعض فيفترض ويترجم، وهو ما حدث بالنسبة للكثير من كتب الثقافة الغربية التي يجدها القارئ العربي شبيهةً بالطلاسم، فإن كان نزيهاً وضعها جانبا، وإن كان من الذين وقعوا تحت سطوة الخوف من الاتهام بالجهل، زعم استيعابه لها، بل وبدأ يشير إليها ويكتب حولها إن كان كاتباً، فيتلقط شاهداً من هنا أوهناك، ويلصق بسطوره مصطلحات لو سألته عنها لوجدته (أعيا من باقل).
ربما لهذا السبب «شرح» العرب القدماء ولم يكتفوا بالترجمة، فكان الشارح الكبير «ابن رشد» مثلاً.
المشكلة الثانية أقل جدية، وأكثر طرافة، صادفتني حين قرأتُ ترجمة مجموعة «أزهار الشر» للشاعر الفرنسي «بودلير» القريب من عصرنا، فأثار انتباهي التشابه بين «بودلير» في نسخته العربية وشاعر الغزل العربي الشهير «ابن الأحنف» البعيد عن عصرنا؛ كان «بودلير» الذي عاش في ضجيج القرن التاسع عشر بثوراته العلمية والصناعية والفنية نوعاً من «العباس بن الأحنف» العباسي.
كيف حدث هذا؟ وهل من المعقول أن ينطق «بودلير» بعبارات مثل «القد الأهيف» و«الألحاظ التي تشبه السيف».. وما إلى ذلك في باريس سبعينات القرن التاسع عشر؟
لم أصدق بالطبع أن الأمور يمكن أن تتم بالتناسخ هكذا، ورجحت أن المترجم العربي أخضع «بودلير» لمستواه هو ولغته وآفاقه، فأجرى عملية تحويل «ثقافي» تشبه عملية تحويل جنس كائن ٍ من جنس إلى آخر.
هذه ترجمة غير مجدية بالطبع لا أستفيد منها كقارئ، لأن ما أريده من الكتاب المترجم أن ينقل لي قبل كل شيء إيقاع ثقافة، لا أن يحول نغمات «البيانو» مثلاً إلى نقرات على طبل إفريقي أو دفٍ عربي.
في هذا الجو نفسه، ولدى مترجم آخر، صادفتُ سطراً شهيراًً لبودلير ترجمه العرب قبل سنوات (وأقول «سطراً» لأن من الخطأ ترجمة لفظة «سطر» الأجنبية إلى «بيت» العربية ). يقول هذا السطر في الأصل:«مدينة أسراب النمل /مدينة محتشدة بالأحلام / حيث يشد الشبحُ ردن ثوبك َ في وضح النهار».. ويحول المترجمُ العربي أسراب َ النمل إلى حشدٍ بشري.. وسطر الشاعر كله إلى حديث عن «المدينة التي ينقض فيها الشيطان ُ على السابلة نهارا ً» !
الأطرفُ بين هذه الطرائف، بل وأخطرها ربما، صادفني حين قرأتُ ترجمة للقصيدة الشهيرة للشاعر اليوناني «كافافيس» المسماة «أتيكا». فعلى رغم شهرة حكاية «يوليسيس» الذي ظل يجوب البحار طوال عشرين عاما على سفينته في طريق عودته إلى «أتيكا» بعد تخريب طروادة، وهو موضوع القصيدة، وعلى رغم صدور عدة ترجمات للقصيدة نفسها بالعربية، إلا أن المترجم لم يأخذ علماً كما يبدو بكل هذا، فحولَ «يوليسيس» الإغريقي إلى بدوي صحراوي، ورحلته رحلةً في الصحراء، ونسي أن يكمل الصورة فيجعل «أتيكا» واحة نخيل.
يبدأ المترجم القصيدة (ويمكن الرجوع إليها في كتاب «ديوان كافافيس شاعر الاسكندرية» – دار سعاد الصباح – 1993 – ترجمة نعيم عطية) هكذا: «إذا ما شددتَ الرحالَ إلى إيثاكا». معروف بالطبع ما يعنيه «الشد» و«الرحال» في اللغة العربية، والذي لا يعادل على الإطلاق الرحيل على سفينة بحراً.
ويكرر المترجم في سطور أخرى هذه المعادلة المضحكة بين الرحلة بحراً والمسير وركوب المطايا، فيقول الشاعرَ ما لم يقله ولا خطر له: «لا تتعجل في سيرك»، ويستبدل لفظة جهابذة بعبارة «ذوي المعرفة». ولعل الأمر الأكثر طرافة هو ترجمة أسماء الأعلام في اللغة اليونانية ترجمة معنوية ؛ فالليستروجينيون يصبحون غيلاناً، والسايكلوبات يصبحون مردة، وبوسايدون يصبح «إله البحر». وتمنيتُ أن تمتد فضيلة الترجمة المعنوية إلى عنوان القصيدة الأصلي، فيكتبها المترجم «العتيقة» بدلاً من «إيثاكا» على أساس أنها في الأصل «أتيكا» وهو الاسم الكنعاني باللفظ اليوناني، أما باللفظ العربي فهي «العتيقة».
واضح من هذه الأمثلة أن الترجمة تحتاج إلى أشياء أكثر أهمية من معرفة ألفاظ لغة من اللغات؛ إنها بحاجة إلى المعرفة اللغوية الدقيقة بلغة المصدر والهدف، وبحاجة إلى معرفة ٍ بثقافة النص المترجَم أيضاً، أي الثقافة التي ولد فيها، والعصر الذي نمت في أجوائه هذه الثقافة. وقد تصح هنا مقولة «جريم» الألماني الذي يرى في الترجمة رحيلاً بين شاطئين، إلا أنه قد يقود إلى اكتشاف أرض ٍجديدة.
ونرجح أن ما يعنيه «جريم» هو أن المترجم بنقله لإيقاع ٍ لغوي ودلالي إلى لغةٍ أخرى، يبتكر في لغته نصاً جديداً غير مسبوق، أي إنه لن يعود من الشاطئ الآخر بآلة تقانية معاصرة مثلاً، ولتكن حاسوباً، فيحولها إلى صندوق لتفريخ الدجاج بحجة أن هذه الأمة وهذه اللغة ليست بحاجة إلا إلى صندوق من هذا النوع، لا إلى حاسوب يغير مخيلتها أو يضيف إلى حساباتها شيئاً مما لم تعرف على الأقل.
_______
*الخليج الثقافي