أحْوَالُ ومَقَامَاتُ الصُّوفِيِّ بِشْر بن الحَارِثِ

خاص- ثقافات
*الدكتور بليغ حمدي إسماعيل

جَوْهَرُ التَّصَوُّفِ فِي الإسْلامِ :

لا تزال تفتنني عبارة توصيف التصوف الإسلامي القائلة بإن التصوف هو لغة الأرواح في درجتها الأسمى ، وهذا الافتتان مفادة السعي إلى اقتناص لحظة استثنائية لاكتشاف قواعد التربية الصوفية التي هي أولى بالاهتمام لتقديمها إلى الناشئة ليس بافتراض تأهيلهم ليستحيلوا في مستقبلهم إلى أقطاب أو مريدين أو أولياء ، بل من أجل تحقيق نواتج تعلم حقيقية وصادقة بعيدة تمام البعد عن مظاهر التطوير التعليمي الباهتة التي لا تتحقق بفضل عن إعداد التربة التعليمية الصالحة لهؤلاء الناشئة . والقواعد الصوفية التربوية مفادها دوما العلم والمعرفة ، ولاشك أن العلم إذا انتشر في قوم أضيئت لهم السبل واتضحت المسالك وميزوا الخير من الشر والضار من النافع ، وإذا أخذنا بهذا المنطق فإن الغرض الحقيقي من تأسيس المدارس والعناية بشأن التعليم فيها إنما هو تربية العقول والنفوس ، وإيصالها إلى حد يمكن المتربي من نيل كمال السعادة .

والمراد من تربية العقول هو إخراجها من حيز البساطة الصرفة والخلو من المعلومات وإبعادها عن التصورات والاعتقادات الرديئة ، إلى أن تتحلى بتصورات ومعلومات صحيحة تحدث لها ملكة التمييز ، أي أن يكون لنور العقل نفوذ تام يفصل بين طيبات الأشياء وخبائثها . والتصوف في حقيقته تربية روحية ، وتجارة مربحة تماما لأنها تجارة مع الله سبحانه وتعالى ، وما أجمل التجارب التي تستهدف القلب مباشرة بمعنى أن التصوف مشروع إصلاحي يتوجه صوب النفس والقلب ، وهذه التجربة الاستثنائية سحرها يكمن في القدرة على تأهيل الإنسان وفق ضوابط وشرائط إلهية لا تقبل الاعوجاج أو التحريف لأن مصدرها الرئيس هو القرآن الكريم دستور المسلمين في شتى بقاع الأرض .

وهذا التأهيل يقتصر على مناح أساسية إجمالها في مجاهدة النفس ، وتربية الأخلاق ، والتحلي بكل جمال وهذا التأهيل يكون تحت عناية ومحبة من الله ورسوله ( صلى الله عليه وسلم ) ، يقول تعالى في محكم التنزيل : ( إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم ) ، ومن هنا وجبت الإشارة والتنويه بقوة وحزم بأن التصوف الإسلامي لا يعد مجرد حركة أو ظاهرة في التاريخ الإسلامي بقدر ما هو تجديد فردي واجتماعي وبات من الأحرى النظر إلى التصوف ضمن سياق تربوي .

bh
وصلاح التربية الصوفية أنها تسعى إلى الوصول لله بالله عز شأنه وتعالت صفاته ، فالوصول لله لا ولن يكون إلا به فهو سبحانه وتعالى الممد لأهل الورع والتقوى والإيمان ، يقول تعالى : ( كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا ) ، وهذا الوصول الذي تحققه تلك التربية الصالحة يبدأ بإرادة العابد المريد لوجه الله هدفا ومقصدا وتوجها عاما لعباداته وطاعاته .
************

التَّصَوُّفُ والغَرْبُ المُتَوَحِّشُ :

سادت أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية وسيطرت عن طريق القنابل والأسلحة والاضطهاد المستدام ، ورغم التقدم الغربي الصناعي الذي أودى بها إلى منتهى رفاهية الإنسان إلا أن تلك الرفاهية هي نفسها مقر شقاء الإنساء بهذه البلدان ، وكما يقول الإمام الأكبر الدكتور عبد الحليم محمود أنه مهما بلغت قوة الغرب الأوروبي وأمريكا في غزو الفضاء وفي استخدام الأقمار الاصطناعية لأغراض التجسس فإن كل ذلك لا يجعل منها أمة فضيلة وخير .

وهذا بالضرورة لا يعني محاربة التقدم العلمي والأخذ بأسباب التقدم الحضاري ولكن لابد أن يتم ذلك تحت مظلة الفضيلة والخير والإيمان .

وظل الغرب أن برفاهيته تلك ستحقق تمام الانشغال عن الله سبحانه وتعالى لكن حدث العكس ، فبين آلاف الحالات من الانتحار في بعض البلدان الأوروبية نجد آلافا آخرين يلتمسون الرضا والسعادة النفسية بالقرب من الله وجعل العزم للوصول إلى محبته . هذا الذي دفع بالغرب إلى تبني علوما أخرى مثل علم النفس وعلم الاجتماع لتحقيق المآرب التي تفي بالابتعاد عن الله عز وجل . وأخذوا في جامعاتهم يدشنون فروعا جديدة ضمن علمي النفس والاجتماع لرصد الحالة الإنسانية وتفسير سلوكاتها المتباينة بعيدا عن العقيدة والأخلاق .

لكن وسط هذا الجنوح والجموح العلمي يقف التصوف الإسلامي بوصفه علما وموهبة لتصد هذه الحملات الشرسة وتؤكد أن السعادة والرضا في الالتجاء الدائم بغير انقطاع إلى الله ، حتى أولئك المستشرقين الذين عمدوا إلى دراسة التصوب الإسلامي وأدبياته تاريخهم جميعا يرجع إلى الاستخبارات الأوروبية الممولة من الكيان الصهيوني ، وكان جل همهم هو دراسة الأيديولوجيات النظرية والطروحات التي تؤسس للطرق والحركات الصوفية من أجل إحكام القبضة والسيطرة على الشعوب الإسلامية ، وهم في الحقيقة اهتموا بأخبار أقطاب الصوفية وتوجهاتهم وأهم آثار انتشار أفكارهم ورؤاهم دونما أن يدركوا السر الأعظم وهو القرآن الكريم الذي يفيض بالحب والرحمة والعدل والحق . وحينما علم اليهود أو بالأحرى والأكثر تحديدا الكيان الصهيوني قوة التصوف الإسلامي ودوره الرائد في تربية الفرد المسلم وتأهيله ، عمد إلى تجنيد عشرات المستشرقين للنيل من حركة التصوف في التاريخ الإسلامي والتركيز فقط على النماذج التي تناولت موضوعات الحلول والاتحاد والشطحات غير المقبولة متغافلين في ذلك الإرث الضخم من ملامح التربية الرصينة التي لجأ إليها الكثير من السلاطين والملوك والحكام عبر يوميات التاريخ الإسلامي في أثناء التصدي للعدو الغاشم المتربص بالأمة الإسلامية .
**********

بِشْرُ بِن الحَارِث الحَافِي :
يقول إبراهيم الحربي عن الشخصية الصوفية المربية بشر الحافي ” ما أخرجت بغداد أتم عقلا ولا أحفظ للسانه من بشر بن الحارث كان له في كل شعرة منه عقل ووطئ الناس عقبه خمسين سنة ما عرفت له غيبة لمسلم ، لو قسم عقله على أهل بغداد لصاروا عقلاء وما نقص من عقله شئ ” . وأبرز ما في مقولة إبراهيم الحربي عن ابن الحارث هو الإشارة والإشادة بالجانب العقلي للتصوف ، وهو الأمر الذي ينبغي التنويه عنه ، فمشكلة الباحثين الذي اتجهوا صوب التصوف والصوفية اكترثوا فقط بالجوانب الروحية بوصف التصوف تجربة روحية في الأساس دونما أدنى إشارة إلى الجانب العقلي والفكري في ظاهرة التصوف الإسلامي .  وربما الاتهامات المتلاحقة التي نالت من التصوف بحجة أنه اتجاه روحي فحسب ولا علاقة له بالعقل أو فعل الإرادة ، هي التي دفعت المتأخرين من مؤرخي حركة التصوف الإسلامي نحو إبراز دور الوعي والإدراك لدى متصوفة الإسلام ، وأن كنه التصوف لا يتمثل في مساجلات تنظم شعراً أو مجرد أقوال مرهونة بمواقف محددة بل هو وعي شديد الحضور وضرب من ضروب النشاط العقلي والذهني ، وإن جازت التسمية في بعض الأحايين بأنه ما فوق الإدراك وما وراء المعرفة . وإذا كان مؤرخو التصوف الإسلامي قد أسرفوا في جمع المواضعات الخاصة والمرتبطة بالمفهوم وركزوا غالباً على التجربة الروحية للمتصوفة معتمدين في ذلك على التعريف الأشهر للتصوف الذي قاله الصوفي الكبير بشر بن الحارث المعروف بالحافي بأن التصوف هو صفاء الأسرار ونقاء الآثار ، فإن كثيرين أيضاً أكدوا على أن التجربة الروحية تلك متلازمة على الدوام مع العقل ، بل إن بعضهم أجاز اعتبار صمت المتصوفة خير دليل على إعمال العقل والتدبر في المجردات والمحسوسات .

والجانب العقلي في التصوف لا يقتصر بالبدهي على عالم المحسوسات وهو الملمح الأكثر شيوعاً عند فلاسفة اليونان ورجال المنطق الأرسطي خاصة ، لكن عمل العقل لدى الصوفيين هو حراك ديدني لا يتوقف في الأمور الباطنية الروحية التي تصل بهم أو تساعدهم في الوصول إلى يقين للمعرفة ، والمعرفة عندهم هو شهود للذوق والوجدان ، وفي ظل الحديث عن العقل في التصوف الإسلامي نجد سجالاً واضحاً ومساجلات تزخر بها الكتب التي تناولت عن التصوف والتي تتحدث عن المعرفة وهي تتأرجح بين القلب والعقل ، حتى خلصوا جميعاً إلى نتيجة مفادها أن القلب اسم جامع يتضمن العقل وعمله وتدبره وأن القلب لطيفة ربانية غير مادية يدرك بها الإنسان الحقيقة الوجودية ، وميز الصوفيون وهم بصدد تناول طرائق القلب والعقل في الوصول إلى المعرفة واليقين حينما سموا إدراك العقل علماً وإدراك القلب معرفة وذوقاً وأطلقوا على صاحب الطريق الأول عالماً ، بينما أطلقوا على صاحب الطريق الآخر عارفاً.

وقول إبراهيم الحربي يتوافق مع ما أشار إليه أبو بكر الخطيب عن الصوفي بشر بن الحارث الحافي بانه كان ممن فاق عصره بالورع والزهد ، وتفرد بوفور العقل ، وأنواع الفضل ، وحسن الطريقة واستقامة المذهب وإسقاط الفضول . وأصل بشر الحافي من مرو من قرية تسمى مابرسام وكان من أبناء الرؤساء والكتبة ، والكتبة مهنة كانت تقتضي العمل بالقصور الملكية وهم أصحاب منزلة خاصة واستثنائية لمكانتهم العلمية .

***************
الحَافِيُّ .. البَحْثُ عَنْ دَلالَةِ الوَصْفِ :

من الأمور التي ينبغي التلميح إليها ونحن بصدد الحديث عن القطب الصوفي بشر بن الحارث اللقب الذي حمله طوال عمره وهو في طريق مجاهداته الصوفية ، فيخبرنا الإمام المجدد الدكتور عبد الحليم محمود بقصة اللقب وسر التسمية ، فيقول إنه كان أسفل قدمه أسود من التراب من كثرة المشي حافيا ، وسبب حفائه أنه كان في ابتدائه في لهو ولعب ، فجلس مع رفقائه لذلك ، فدق رجل بابه ، فخرجت الجارية ، فقال : صاحب هذه الدار حر أم عبد ؟ . قالت : حر . قال : صدقت ، لو كان عبدًا لاستعمل أدب العبودية وترك اللهو ، ثم ولى . فدخلت الجارية فأخبرته ، فخرج يعدو خلفه حافيا حتى أدركه وقال : أعد لي الكلام ، فأعاده ، فهام على وجهه حافيا حتى عرف بالحفاء . وقال عبارته ذائعة الصيت بعد ذلك : ” ما صالحني مولاي إلا وأنا حاف ، فلا أزول عن هذه الحالة ” .

وبشر الحافي يعد من أبرز أقطاب الصوفية في القرن الثالث الهجري ولقد بلغ من التقوى والورع والزهد في الدنيا ما جعل ذكره على ألسنة الخَلْق. وتروي كتب الأخبار والأعلام أن ثمة صداقة جمعت بين الصوفي بشر بن الحارث الحافي والإمام أحمد بن حنبل المحدث العظيم الذي اصطبغ بصبغة الاقتداء برسولنا الكريم ( صلى الله عليه وسلم ) ، فالخزرجي يشير إلى أن الإمام أحمد بن حنبل تتلمذ على يد بشر بن الحارث ، وسئل أحمد بن حنبل عن رأيه في بشر كما روى ذلم محمد بن المثني قال : قلت لأحمد بن حنبل : ما تقول في هذا الرجل ؟ فقال لي : أي الرجال تقصد ؟ فقلت له : بشر ، فقال : سألتني عن رابع سبعة من الأبدال ، ما مثله عندي إلا مثل رجل ركز رمحًا في الأرض ثم وقف منه على السنان ، فهل ترك لأحد موضعَا يقف فيه ؟ . وكان عامر بن غنام يقول : قلت لأحمد بن حنبل : من أسأل ؟ قال : بشر بن الحارث .

قَوَاعِدُ التَّرْبِيَةِ الصُّوْفِيَّةِ :
ترك بشر بن الحارث جملة طويلة وكبيرة وإرثا عظيما من الحكم والمواعظ التي تتفق مع كتاب الله العزيز وسنة النبي المصطفى ( صلى الله عليه وسلم ) وهي حكم وأمثال ومواعظ تتعلق بكافة شئون حياة العبد مع الله تبارك وتعالى من ناحية ، وبين العبد وغيره من العباد من ناحية أخرى ، وهي ـ أي الحكم والمواعظ ـ تعكس ثقافة بشر الحافي أيضا ، وتمثل صورة تقواه وإيمانه ، ومن مثل ذلك يقول بشر بن الحارث : ” خصلتان تقسيان القلب ؛ كثرة الكلام ، وكثرة الطعام ” ، ويقول أيضا : ” الصبر هو الصمت والصمت من الصبر ولا يكون المتكلم أروع من الصامت إلا رجل عالم يتكلم في موضعه ويسكت في موضعه ” . ويقول : ” أمس قد مات ، واليوم في النزع ، وغدا لم يولد ، فبادر بالأعمال الصالحة ” . وله حكم ومواعظ في الزهد تمثل موقفه من حركة التصوف الإسلامي ، وهو في ذلك أيضا لا يخالف دستور الإسلام ألا وهو القرآن الكريم ، ولا يخالف أيضا سيرة الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) ،إذ يقول : عانق الفقر وتوسد الفقر وعادِ الهوى وخالف الشهوات فبهذا يطيب السفر إلى الله . وكان يقول : أسد الأعمال ثلاثة ؛ الجود في القلة والورع في الخلوة وكلمة الحق عند من يخاف ويرجى .

ومن حكمه البليغة ما رواه محمد بن نعيم بن الهيضم ، حيث دخل ذات مرة على بشر الحافي فقال له : عظني : فقال بشر : إن في هذه الدار نملة تجمع الحَبَّ في الصيف لتأكله في الشتاء ، فلما كان يوم أخذت حبة في فمها فجاء عصفور فأخذها والحبة فلا ما جمعت أكلت ، ولا ما أملت نالت . قلت له : زدني ، فقال بشر : ما تقول فيمن القبر مسكنه ، والصراط جوازه والقيامة موقفه ، والله مسائله ، فلا يعلم إلى جنة يصير فيهنى ، أو إلى نار فيعزى ، فوا طول حزناه ، وأعظم مصيبتاه ، زاد البكاء فلا عزاء ، واشتد الخوف فلا أمن .

شَرَائِطُ الطَّرِيْقِ إلى الله :
يحدد بشر بن الحارث الحافي سبل وطرائق الوصول إلى الله عز وجل ورضاه عن طريق شرائط معينة ينبغي للمسلم المؤمن أن يتعبها وهي شرائط تتوافق كلية مع الكتاب والسنة النبوية ، وهذه الطرائق مفادها التقرب إلى الله تبارك وتعالى من أبرزها الإخلاص فكل ما ليس خالصا لوجه الله لا يثاب عليه ، يقول تعالى في محكم التنزيل ( ألا لله الدين الخالص ) .

ويؤكد بشر بن الحافي على أن أولى درجات التقرب إلى الله تعالى التوبة ، وهذا يعني أن الإخلاص لن يتأتى إلا بتوبة صادقة ، وقد أمر الله تعالى في القرآن بالتوبة وحث عيها وحبب فيها وأوجبها في بعض الأحيان . يقول تعالى ( قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم ) . ويقول تعالى في قرآنه المجيد ( وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون ) .
___________

*مدرس المناهج وطرائق تدريس اللغة العربية والتربية الإسلامية
كلية التربية ـ جامعة المنيا

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *