إمكانية الترجمة واستحالتها


*عزالدين بروكة


خاص ( ثقافات )
الترجمة بين الأمس واليوم! الترجمة بين (نحن) و(هم). الترجمة بين فعل الكتابة في الزمن الحاضر وفعل الكتابة في الزمن الماضي، بين العقلية المنتجة للأدب بالأمس البعيد واليوم، هذا ما سنسبر أغواره فيما يأتي من كلمات من مقالنا هذا. فالترجمة اليوم، جسر تواصل بين (نحن) و(هم)، “تصوّر الجسر هو الأروج ولا يمكن إنكاره” . إنها وسيلة العبور “إليهم” و”إلينا” أيضا.. إنها متلازمة باتجاهين.
إنّ جلّ –إن لم نقل كلّ- كُتّاب اليوم لا يكتبون إلا وهم يفكرون في إمكانية ترجمة نصوصهم إلى لغات أخرى.. فالكاتب العربي المعاصر يكتب وهو يفكر في ترجمة نصوصه للفرنسية أو الإنجليزية، ولما لا إلى لغات عدة. ففي الزمن المعاصر إنْ نكتب فنحن نفكر في الآخر -إذن، في الغريب والأجنبي. فهل كان المؤلفون العرب القدماء يفكرون في الآخر الأجنبي وهم يُنجزون أدبهم؟ و”هل كانوا يُدخلون في حسابهم أن أعمالهم قد تنقل إلى لغة أو لغات أجنبية؟ كيف كانوا يرون الترجمة؟ يظهر أنهم كانوا يرون إليها كعملية تتم من جانب واحد، عملية تنطلق من اللغات الأخرى (الفارسية واليونانية والسريانية) إلى العربية. أما العكس، فلم يكن على الأرجح ليخطر لهم ببال، أو على الأقل لم يكن هما يؤرقهم ويقض مضجعهم، ربما لأنهم كانوا يفترضون أن طالب الحكمة والراغب في المشاركة في العلوم لا مندوحة له من إتقان العربية، وذلك ما كان حاصلاً بالفعل” .
فإن كان كتاب اليوم يرون بضرورة الترجمة فلكي تحيى نصوصهم، “فالترجمة هي التي تنفخ الحياة في النصوص وتنقلها من ثقافة إلى أخرى، والنص لا يحيا إلا لأنه قابل للترجمة، وغير قابل للترجمة في الوقت ذاته” .
النص يحيا أيضا في كونه غير قابل للترجمة!، فقد عمد الكتاب العرب القدماء أن يجعلوا نصوصهم من غير الممكن ترجمتها، كأنما الترجمة نقل لسر ما لا ينبغي كشفه! وكأن النص لا يُقرأ إلا في لغته الأم، و”لم يكتفِ القدماء بالاستهانة بالترجمة ونبذها من تفكيرهم، بل يُخيّل إلينا أنهم حرصوا عن غير عمد على جعل مؤلّفاتهم غير قابلة للتحويل، فطوروا صياغات وطرقاً في التعبير وأساليب تستعصي على النقل” .
غير أنه في شكل من الأشكال، ترجمة الأجنبي ممكنة، وأحيانا واجبة، بل هي فعلٌ لابد منه. إنها نقل لسرهم، وأليس معرف لغتهم سلام من شرهم؟: “من تعلم لغة قوم أمن شرهم” . إن ترجمة الآخرين سلام منهم، وتقية مستبقة من شرهم. “فقد كان ابن المقفع يعتبر نقل المعرفة واجبا”.
قديما نهى بيدبا الحكيم الهندي عن تداول كتابه “كليلة ودمنة”، وأوصى الملك بالمحافظة عليه، وألا يصل إلى أيادي الفرس (الأجنبي) فيذهب، فهو كتاب يحوي أسرارا لا ينبغي أن تصل إلى “الآخر” الأعجمي، الذي لا يتحدث الهندية. فكأن كل مؤلَّف هو ملك للبلد (اللغة) الذي (التي) كُتب فيه (بها). إنه حكر على (نحن) ومحرم (عليهم). “تترتب على هذا الموقف قطيعة عنيفة: عندما نرفض أن يترجمنا الآخرون، فإننا في الوقت ذاته نرفض أن نترجمهم. إلا أن الكِتاب وعلى الرغم من كافة الاحتياطات، “خرج” من بلاد الهند وانتقل إلى لغات أخرى. ولقد فرضت ترجمة ابن المقفع [للكتاب] نفسها بقوة” . لقد خرج الكتاب وتُرجم، ونُقل إلى الفارسية ومنها إلى العربية! لكن هل تم إفشاء السرّ؟ وأي سر؟ ولماذا ليس على الفرس أن تصل أياديهم إليه؟ يقول الملك لبيدبا أن يصنع له كتابا “ظاهره سياسة للعامة وتأديبها ولأخلاق الملوك وسياستها للرعيّة على طاعة الملك وخدمته”. إن ظاهره سياسة وباطنه قوة. فليس على الآخر أن يعرف من أين تُسْتَمَد قوت(نا)، عليه أن يبقى بعيدا عن كل أشكال المعرفة التي تقوي(نا). إن المعرفة حكر على (نحن) ومحرمة على (هم).
“إن الآخر جحيم”، إنه عدو دائم وخطر قائم. فلا يمكن أن تكون هناك صداقة مع الغريب (الأجنبي /الأعجمي)، فالصداقة هي حالة سلام في غياب الحرب فقط، فالصداقة بين المواطنين، كما عند أرسطو، شرط من شروط قيام الحياة الفاضلة داخلة المدينة. فيلسوف الإغريق لا يرى بالصداقة إلا بين مواطني المدينة لا خارجها. بل إن تعلّم لغتهم محرمة عند(نا)، أحيانا كثيرة، ففي حديث ابن عمر: يقول النبي: (من يحسن أن يتكلم بالعربية فلا يتكلم بالعجمية فإنه يورث النفاق) . إن التحدث بلغة الأعجمي، ليست سلام من شره فقط، بل شر أيضا، إن الآخر (منافق) فبالتالي لغته (لغة نفاق). إنه تهديد لي، ولهُويتي، ولتقواي.
ومن جهة أخرى فإنّ ما أكتب هو (أنا)، وما نكتبه هو (نحن)، إننا لا نكتب إلا لغتنا، فالإنسان كما يقول هيدغر، “لا يتكلّم إلا استجابة للغة عندما يصغي لما يقوله، وينصت إليها” ، “إنّ اللغة هي الكيفية التي يكشف فيها الوجود عن ذاته ويحجبها في الوقت ذاته” . “اللغة حقيقة وجودنا”، فالكاتب قديما إن لا يريدُ أن يُترجَم فإنما هو يتفادى العري الواضح وكشف الذات أمام الآخر.
إن القدامى كانوا يكتبون لل(أنا) والأنا المشابه /المطابق، لا للآخر المخالف والمختلف، فقد كانوا يفكرون في القارئ الذي ينتمي لنفس اللغة، لا يأبهون بالقارئ الخارج عن اللغة، فكان التنافس محدودا على مستوى اللغة ذاتها والبلاغة فيها، بمقابل التنافس على العتاد والقوة والتسلح مع الآخر (العدو المرتقب في أي لحظة)، ولا على مستوى الفكر والفلسفة والعلوم معه. 
التنافس واردٌ داخل اللغة عينها، أما بين اللغات فمفروغ منه “إن لغتي لأفضل وأسمى”. يقول الجاحظ: “ولابد من ذكر… الدليل على أن العرب أنطق، وأن لغتها أوسع، وأن لفظها أدل، وأن أقسام تأليف كلامها أكثر، والأمثال التي ضربت فيها أجود وأسير” ، ويقول في موضع آخر: “والبديع مقصور على العرب ومن أجله فاقت لغتهم كل لغة”. وتتأتى قوة اللغة من الكتاب المقدس، مما يُذهب (ويحرّم) إمكانية النقاش في ذلك “وإنّه لتنزيلُ ربِّ العالمين، نزل به الرُّوحُ الأمين على قلبك لتكون من المنذرين، بلسانٍ عربيّ مبين” (القرآن، الشعراء).
وإنك لا تستطيع إلا أن تتقن لغة واحدة، بل لا يمكن أن تتكلم لغتين، فكلّ لغة هي ضريرة لغة في ذات اللسان، يقول الجاحظ: “واللغتين إذا التقيا في اللسن الواحد أدخلت كل واحدة منها الضيم على صاحبتها”. فكيف يمكنك أن تترجمني؟ إنك وإن امتلكت لغتي، فإنك تمتلكها ناقصة! فالترجمة مستحيلة وغير ممكنة و”محرمة”. فالترجمة تهديد (لي) وللغتي (هويتي)، “إن الترجمة لا تحول النص المترجم فحسب، فهي عندما تحوله تُحوّل في ذات الوقت اللغة المترجمة كذلك” . فالترجمة هي ازدواج إذن، تارة ممكنة لمعرفة الآخر ومستحلية ومباحة ومحرمة. إنها قوة وضعف.
وألا يكون الجاحظ وسواه على حق؟ ألا يستحيل ترجمتي؟ كما يستحيل ترجمتك؟ ألم يصلنا كتاب “فن الشعر” لأرسطو في ترجمته العربية (نسخة ابن رشد) بمغالطة كبيرة، أدت إلى منع قيام جسر عبور إلى ثقافة الآخر، إلى عقليته، وإلى فـنـّه؟ “في المصادر أن حنين بن إسحاق نقل فن الشعر، بل ما هو مؤكد أن ابنه، إسحاق بن حنين، هو الذي أنجز هذا العمل، الذي لم يصل إلينا مع الأسف. أما متى بن يونس فإليه (وليس إلى ابن رشد) تؤول تاريخيا مسؤولية ترجمة تراجيديا بالمدح وكوميديا بالهجاء. لقد أخطأ بن يونس، أخطأ فمنع التواصل. “إنه لا يمتلك اللغتين”، لقد استعصت عليه واحدة، وغلبت الأخرى، فأسقط شرح الكلمات على محدودات ما يعرف، وألم تصل إليه هو أيضا النسخة مترجمة إلى السريانية؟ فالترجمة إذن عمياء، وتصير مستحيلة إذ نُقلت إلى أكثر من لغة، إذ عبرت لغات لتستقر عندنا. فالترجمة هي خيانة، خيانة اللغة الأصلية والنص، إنها تشويه له (!؟) لكن أليس النص هو نفسه ترجمة عن نصوص سابقة؟ وألا تقام الترجمة داخل اللغة عينها؟ فلأي شيء تصلح المعاجم؟ وألم يضطر كتاب لشرح كتبهم ومؤلفات غيرهم؟ “إن الترجمة، كما يقول بنعبد العالي، لا تكون نسخة عن أصل، وإنما نسخة عن نسخة لأن النص الأصلي ليس أحادي التأويل ولأنه ينطوي على فائض في المعنى”. إن النص هو حامل لنصوص سابقة (فائضة). إنك لا تكتب إلا إعادة لما تراكم من النصوص، إنك تترجمها. إن الترجمة ليست نقلا من لغة إلى لغة، إنها الكائن المقيم في اللغة عينها، إنها اللغة حينما تتحدث. 
—————–
هوامش:
أنظر: عبد المجيد جحفة -قاف صاد 2011-نحن والترجمة. وأيضا مقالنا على موقع مجلة الموجة الثقافية www.elmawja.com بعنوان: في فعل الترجمة.
عبد الفتاح كيليطو، لن تتكلم لغتي، دار الطليعة للطباعة والنششر، الطبعة الثانية 2012، ص 22 
عبد السلام بنعبد العالي، في الترجمة، سلسلة شراع، أكتوبر 1998، ص 19 
لن تتكلم لغتي ص23 
حديث منسوب إلى النبي محمد 
عبد الفتاح كيليطو، الأدب والارتياب، دار التبقال، الطبعة الأولى 2007، ص 8 
وأيضاً حديث عمر عن النبي محمد: (من كان يحسن أن يتكلم بالعربية فلا يتكلم بالفارسية فإنه يورث النفاق) 
في الترجمة، بنعبد العالي ص 16
M. Heidegger : « lettre sur l’humanisme » in question III, Gallimard 1966. P 94-95.
انظر البيان والتبيين 1/384
W. Benjamin : « La tâche » P 273 (عن: في الترجمة، بنعبد العالي ص 22)
الأدب والارتياب، ص 61

شاهد أيضاً

أول رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي

(ثقافات) أوَّل رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي: أركيولوجيا الصورة في رحلة ابن بطوطة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *