*محمد العباس
اللقاء الإبداعي النقدي في ندوة مكناس عام 1983 هو أحد أهم اللقاءات التي حاولت بجدية (البحث عن أسس نقدية ونظرية لدراسة تطور الحركة الأدبية، وللاقتراب من محاولة بناء سياق لتطور القصة القصيرة)، كما جاء في الكتاب الذي نقل جانباً مهماً من مناخ السجالات، وضم مجموعة الدراسات التي قُدمت في تلك الندوة، وصدر حينها عن مؤسسة الأبحاث العربية بعنوان «دراسات في القصة القصيرة – وقائع ندوة مكناس»، حيث تحول الكتاب إلى مادة مرجعية على درجة من الحيوية والغنى لكل باحث في تاريخ وواقع ومآلات القصة القصيرة في العالم العربي.
في الكتاب دراسات لنخبة من المهتمين بالأدب كمحمد برَادة، ويمنى العيد، والياس خوري، ونجيب العوفي، ومحمود التونسي، وهاني الراهب، وصبري حافظ، وخالدة سعيد، وتوفيق بكار، وعبدالفتاح كيليطو، وسيد بحراوي، وإدريس الناقوري، وعبدالرحمن مجيد الربيعي، وهي أسماء موزعة على خريطة الإبداع العربي ولها إسهاماتها المشهودة، كما يتبين من منسوب الوعي الحاضر في مجمل الدراسات، وكذلك من الدراية المعرفية والفنية بكل الإشكالات التاريخية واللغوية والشكلية والثقافية والاجتماعية المتعلقة بكتابة القصة القصيرة، حتى المقاربات الذاتية كانت تأخذ إطارها الموضوعي والبحث المنهجي.
هذا التقليد الأدبي الجاد، الذي يجعل الإبداع يتحرك وينمو بموازاة النقد، لم يعد اليوم موجوداً في الحياة الثقافية العربية، حيث باتت الملتقيات مزدحمة بالروائيين الذين يُعاملون كنجوم، على اعتبار أن اللحظة التي نعيشها هي لحظة الرواية، فيما تم طرد النقاد أو الاكتفاء بحضورهم الشكلي على هامش تلك المحافل، وكأن الناقد صار مجرد مسوّق للروائي، حتى عندما يُطلب منه تقديم ورقة أو مداخلة يكتفي بتعليقات شفهية عمومية في أفكارها ومقاصدها، ليسجل حضوره الشرفي ليس إلا، وبالتالي فهو يتنازل عن دوره كقارئ نوعي للنتاج الأدبي، وهو الأمر الذي يفسر جانباً من غياب المرجعيات النقدية المحايثة للمنجز الروائي العربي الحديث، وانفلاته في كل الاتجاهات من دون أي مقاربات مقنعة لمجمل الظواهر المتعلقة بالكتابة الروائية.
مع لحظة الانفجار الروائي مطلع التسعينيات كان من المتوقع ظهور حركة نقدية معنية بالخطاب الروائي وموازية له بكل تشظياته وتنوعاته، وهو أمر حدث بالفعل، لولا أن الرواية تمادت في الاستئثار بالمشهد الثقافي لأسباب موضوعية، محتمة بسيرورة الحياة العربية، وعلى إيقاع منظومة من الجوائز التي لم تسمح فقط بتحويل الروائي إلى نجم ثقافي، بل جعلت من بعض النقاد مجرد نقاد جوائز، بمعنى أن الإبداع لم يعد هو محل اشتغال النقد، بقدر ما صار فصيل عريض من النقاد يتسابقون لتحكيم تلك المتوالية الفائضة من الجوائز، بما في ذلك الأقلام التي تتابع المنجز عبر مطالعات صحافية ومراجعات تحمل قيمة ناقدة.
ويبدو أن النقد العربي الذي اجتهد في مراحل سابقة ليبدد النظرة التي تلحقه بالإبداع، وتصنفه كخطاب ثانٍ، قد تنازل عن نضالاته كخطاب أول يقرأ الظواهر ويحللها، ويقترح المدارات الجمالية الأرقى، ويستجلب آخر منهجيات وأساليب الكتابة الحداثية، وبالتالي صار على درجة من المهادنة والقبول بدور الرافعة لمنتجات عادية، وكل ذلك تحت متوالية من الذرائع كنهاية النقد الأدبي وبروز النقد الثقافي، أو موت النظريات النقدية في الغرب، والتبشير بنهاية الناقد ونهوض نقاد المدونات، وهو مآل مؤسف يلخص النظرة الدونية للناقد في الثقافة العربية، حيث تتوالى التصريحات الفاقعة بعدم الحاجة إلى النقاد، وأنهم مجرد كائنات متطفلة على الإبداع، وأن المبدع هو الذي يُخلد في التاريخ مقابل الناقد الذي يظل مطموراً في الهامش وهكذا.
كل تلك الاعتقادات الطاردة للناقد من الحياة الثقافية متأتية من وعي قاصر بدوره ومكانته وإسهاماته، وهي أيضاً نتيجة طبيعية لإساءات طابور طويل من النقاد لفكرة النقد بانتهازيتهم وممالآتهم وتعقيدات خطابهم واغترابهم عن النص، هذا بالإضافة إلى أن العقل الناقد لا ينمو إلا ضمن مركبات اجتماعية تتقبله وتشجع على ازدهاره، وهي حقيقة ماثلة اليوم بقوة في المشهد العربي حيث يصعب إقناع المبدعين بأي دور ممكن للناقد، كما يواجه الناقد الحقيقي باعتباره أحد منتجي المعرفة عقبات كثيرة لإقناع منتجي النصوص بإمكانياته المنهجية وحياديته في مقاربة النصوص، أما المؤسسات الثقافية فهي تبالغ في التنكيل بالنقاد وتثير حنقهم بتصعيد الاحتفاء بالروائيين، إذ تكفي مراجعة قائمة المشاركين في أي ملتقى للرواية في السنوات الأخيرة لنقف على كم هائل من الروائيين المصعدين، مقابل حضور باهت للنقاد.
كل ما حققه الغرب من ثورات في التفكير كان للنقد فيه دوره الكبير والمؤثر، والتاريخ الأدبي يشهد على فتوحات مهمة في هذا المجال، حتى عندما استؤنف الحديث عن الحداثة كان للنقد ما للإبداع من إسهام، على اعتبار أن النقد هو عقل الأمة وخزينها المعرفي مقابل الرصيد الروحي والوجداني للنصوص الأدبية، أما في العالم العربي فقد كان الحديث عن الشعر كقاطرة أولى للحداثة العربية مع تغييب متعمد لدور النقد، لأن ذهنية اختصار ديوان العرب في جنس أدبي وخزان قيمي حياتي هي الثقافة المهيمنة، وحينها كان الشعر هو ديوان العرب، أما اليوم، وفي ظل مقولة إن الرواية هي ديوان العرب الجديد، فيبدو أن الطوابير تزحف بهذا الاتجاه الذي لا يمتلك على أرضية الواقع ما يسنده، سواء على مستوى الإنتاج الأدبي أو التنظير النقدي.
النقاد أنفسهم، أو بعضهم، صاروا يتخففون من عبء الممارسة النقدية وتلبس أدوار الروائيين في سباق محموم نحو الجوائز والنجومية ومنصات التتويج والجماهيرية، وكل ذلك أيضاً يأتي في سياق مقولات موت النخبة، التي يمثل النقاد أحد أهم ركائزها، حيث لم يفرز الجيل الجديد نقاده ولم يؤسس لتيارات نقدية لافتة، وكأن الأمة كلها تنازلت عن عقلها بإعلان انصرافها عن النقد، نعم، النقد الذي يتأسس على مزيج عقلاني جمالي من الفلسفة والفكر والفن واللغة، النقد الذي صار يُنظر إليه كقيمة ثقافية بالية، لا تتناسب مع إيقاع اللحظة، وهذا هو ما يفسر انتفاء الرغبة في فهم سر نشأة الرواية العربية، بمعزل عن نظريات الغرب الذي أسس لها، وعدم وجود إسهامات جادة لقراءة سيرورتها على أي مستوى، لأن عجلة إنتاج الرواية أسرع بكثير مما يطيقه النقد.
______