محمد الأصفر
تقلصت مساحة النقد الأدبي تقلصاً مؤسفاً في العقود الماضية، وما عادت العين تقع إلا على مقالات سريعة تمر على جغرافية النصوص الأدبية (شعراً ورواية ومسرحاً .. إلخ) مروراً عابراً. ومقارنة بما كان يكتب قبل نصف قرن أو أقل بجدية بالغة، نكتشفُ استهانة بفعالية النقد، واستهانة بالكتابة ذاتها، رغم الإعلانات الباذخة التي ينشرها محبّون وعشّاق (إن صدقاً أو كذباً) عن الكاتب الفلاني أو الكاتبة الفلانية. الأمر الذي يثير الانتباه الآن، أن النص النقدي العربي والمعايير المستخدمة لا تكاد تتغيّر مهما اختلفت النصوص والجغرافيات وهويات الكتاب أصحاب النصوص. فإذا نقلت نصاً يتناول رواية أو مجموعة شعرية إلى رواية أو مجموعة أخرى لما وجدت اختلافاً، فهذا يصلح لذاك، وذاك يصلح لتلك. كل النصوص تُعامل كأنها مولودة حاضنة معرفية واحدة، وتطلع من التربة نفسها، سواء كان صاحبها يعيش في مشرق أو مغرب، وفي شمال أو جنوب. ولا تختلف مطالب النقاد، والنقد عندنا في معظمه مطالب تمسك بتلابيب الكتاب، فهي ذاتها التي تُوجّه إلى الخليجي والمتوسطي وساكن الغابات الأفريقية. هل تماثل النصوص هو الذي يقف وراء تماثل الخطاب النقدي؟ وبالتالي لا حاجة لأدوات متمايزة في التنقيب والبحث؟ هذا سؤال أولى قد يمر بالبال، وقد يكون الجواب عليه بنعم، إلا أن الخصوصيات الضائعة بفعل الإهمال والكسل لا تفوت المتابع الدقيق. هناك تمايز في النصوص طبيعي، حتى وإن قلدّ هذا ذاك، حتى وإن هرعت جموع الكتاب أحياناً للإطلال من نافذة فتحها أحدهم (أو إحداهن)، لأن الجغرافية المعرفية، أي التركيب الثقافي/ الاجتماعي/ السياسي/ الاقتصادي لكل منطقة عربية، ليست واحدة. ويتعمق التباعد حتى على صعيد فردي، حيث لكل كاتب/ كاتبة فرد في العصر الراهن، مطامحه وآفاقه ومراجعه، أعني أن له أعماقاً يعكف على قياسها بما توفر له من منابع، قد تكون تراثية أو معاصرة، غربية أو شرقية، وقد تكون مزيجاً من هذا كله. هذا يقتضي بالضرورة انتباهاً نقدياً إلى هذه الجغرافية المعرفية، تلك التي يصدر عنها أي نتاج أدبي، وهو ما يعنيه مصطلح النقد الثقافي الذي تسطح لدى بعض النقاد أو تحول إلى سطح لا عمق تحته. أما التعلق بما هو شائع من معاييرعامة ذات طابع تقاني (بنية النص وتعددية المعنى والخيالي والواقعي) تصلح لتناول كل طبخة أدبية، فيمكن أن تسحب الكتابة النقدية، وقد سحبتها فعلاً، إلى مواقف تكون فيها كتابة مسلية وعابثة. بالطبع هناك ما يدعى في النقد تيارات النقد الاجتماعي والنفسي والأسطوري والشكلاني.. إلخ، إلا أن أصحاب هذه التيارات في طبعاتها الأصلية لم يتركوا الجغرافية المعرفية جانباً مثلما فعل الذي استوردوا طراطيش هذه التيارات، وتفعل أواخرهم الشائعة في هذه الأيام، فأفرغوا النقد الأدبي من أي أداة سواء كانت اجتماعية أو نفسية أو أسطورية أو شكلانية أو أدبية.
العربي الجديد