المبدعون الكبار مدهشون دائماً، ويبدون بريئين كالأطفال في سلوكاتهم ومشاكساتهم.. قد تبدو أحياناً بسيطة، ولكنها تفصح عن أعماق شفافة بعيدة لا تدرك من اللحظة الأولى.. ولذلك تبقى أعمالهم مثيرة ومتجددة بعد كل قراءة جديدة.. ومثلما هو حضورهم الإبداعي مؤثر ودائم، كذلك حضورهم الاجتماعي وأداؤهم اليومي لا يقلان تأثيراً، رغم أن ذلك يحدث في دائرة ضيقة أو بين مجموعة قليلة من الحضور، سواء كان في حضور بعض الجلسات خارج الملتقيات الأدبية وعلى هامشها، أو ما يتبع ذلك من فعاليات اعتيادية من تفاصيل الحياة اليومية..
تحضرني هذه المقدمة وأنا أستذكر الشاعر عبدالوهاب البياتي،.. فقد كان معروفاً عنه أنه لا يقرأ في أمسية شعرية مشتركة، لكنه يحضر الكثير من المهرجانات والملتقيات الكبيرة، ويبدي رأيه بصراحة حتى لو كانت صادمة، ومستفزة أحياناً، وكذلك يتقبل ما يصدر عنه من كتب أو دراسات برحابة صدر، ويشكر مؤلفيها حتى لو كانت ملاحظات وآراء الكاتب، أو الناقد متناقضة مع قناعات الشاعر وأدائه الشعري.. وفي لقاءاته الكثيرة، الكثير من الشواهد، سواء ما يتعلق منها بالشعراء وآرائهم وكتاباتهم، أو التيارات الشعرية، والمدارس والمناهج النقدية، والنقاد.
في العام 1984 وصل البياتي من إسبانيا لحضور فعاليات «مهرجان الأمة الشعري» الذي أقامه «منتدى الأدباء الشباب» في بغداد، الذي كان يديره مجموعة من الشعراء الشباب، برئاسة الشاعر لؤي حقي.. وكان فيما يبدو رداً على دورة مهرجان «المربد» الذي قيل إنه لم يكن في تلك الدورة بالمكانة التي تليق به، ومستواه الإبداعي المعروف عنه.. وكان من المفارقات التي ظل يتداولها أدباء العراق، أن إحدى المترجمات اللواتي كن في استقبال الوفود في مطار بغداد الدولي، رحبت بالبياتي وقدمت له باقة ورد، وقالت له: أهلاً بك في بلدك الثاني العراق! لتكتمل المفارقة بأن هذه المترجمة أصبحت صديقة حميمة لعلياء البياتي، وشاعرة لها حضورها وصوتها في قصيدة النثر..
كان المهرجان كبيراً فعلاً، وحضرته شخصيات أدبية وفنية عربية وعالمية كبيرة، وخصص فندق الرشيد لإقامة الوفود وفعاليات المهرجان، وهو فندق رئاسي من أفخم الفنادق في العالم آنذاك، وصمم لاستقبال رؤساء دول عدم الانحياز، إلا أن المؤتمر لم يعقد في بغداد بسبب الحرب العراقية الإيرانية.
وفي التفاتة ذكية من البياتي، اختار مكاناً لمائدته على بعد خطوة من باب المطعم، بحيث يضطر الجميع إلى المرور به، أو قريباً جداً منه، أثناء الدخول والخروج في أوقات وجبات الطعام الثلاث، وفعلاً كان كثير منا يقف للسلام عليه، أو إهدائه دواوينه، أو دراساته، خاصة ما يتعلق منها بالبياتي، وكانت ابنته زميلتنا الشاعرة «علياء» التي صاحبته في المهرجان تقوم بمهمة مدير الأعمال، وجمع الإهداءات والعناية بها. وقد جمعتنا مع البياتي أكثر من جلسة في «الكافيه»، بصحبة العديد من الأدباء العراقيين والعرب..
أهديته مجموعتي الشعرية الأولى (دم وبرتقال)، التي صدرت العام 1983 في بغداد، فشكرني، شأني في ذلك شأن كل الزملاء الذين قدموا له دواوينهم أو دراساتهم عنه.. وصادف ذلك يوم قراءتي في الأمسية الشعرية التي أقيمت مساء في قاعة الزوراء التي استضافت كل أمسيات المهرجان، وفعالياته.. وقرأت فيها قصيدة «نساء الشاعر» التي حملت مجموعتي الثانية عنوانها وصدرت العام 1986.
في ظهر اليوم التالي، وبينما أنا أهم بالخروج من المطعم بعد تناول طعام الغداء، وبالقرب من طاولته، سلمت عليه، وإذا به يناديني وينهض من مكانه، ويمد يده إليّ مصافحاً، وقال لي: (أنا لم أحضر الأمسية يوم أمس بسبب بعض الانشغالات والارتباطات خارج الفندق.. ولكنني سمعت من بعض الإخوة في المهرجان كلاماً طيباً عن بعض قصائد أمسية أمس، ومنها قصيدتك.. وسأسمعها منك مباشرة لاحقاً عندما نجلس في الكافتيريا)، ثم مد يده إلى حاوية الفاكهة التي كانت أمامه وتناول برتقالة منها وقدمها إلي، وقال لي: (أما الآن فلا أملك إلا هذه البرتقالة)، تناولت البرتقالة منه، وشكرته على رأيه الذي اعتز به كثيراً..
في هذه الأثناء كان عدد من الزملاء ازدحموا خلفي للخروج من المطعم، أو السلام على البياتي، وبعد خطوات لم أجد نفسي إلا وأنا خارج المطعم وبيدي (برتقالة البياتي)، عندها أدركت حرج موقفي، إذ كيف سأعيد البرتقالة من دون أن يلحظني البياتي؟ وماذا سيقول الأدباء عني، قبل ثوان كنت في مطعم (رئاسي) وأخرج ومعي برتقالة؟ ولكي أتدارك الموقف وضعت (البرتقالة) على بطني تحت المعطف في محاولة لإخفاء (التهمة) ووضعت يدي فوقها، لعلي أجد مخرجاً من هذا المأزق.. ولم انتبه إلى أن هذه المحاولة وضعتني في هيئة غير طبيعية تجلب النظر والانتباه أكثر مما كنت أتوقع.. وفعلاً شاهدني أحد الزملاء على هذه الحالة فاقترب مني مستفسراً إن كنت أعاني ألماً في معدتي، وسألني إن كنت احتاج مساعدة ما، والذهاب إلى طبابة الفندق.. بخاصة وأنا خارج للتو من المطعم.. شكرته، واستمررت في السير في الممر المؤدي إلى الساحة الخارجية للفندق، من دون أن التفت يميناً أو يساراً.. ولكن الزميل أصر على البقاء معي، مشكوراً طبعاً، لإسعافي إن لزم الأمر.
وبعدما أصبحنا في الحديقة الخارجية، ووسط إلحاح زميلي على أن يعرف ما بي، أخرجت البرتقالة التهمة من تحت المعطف، ففغر فاه، واتسعت حدقتا عينيه من الدهشة. فابتسمت له، وأوضحت له حقيقة الأمر وما جرى.. فأطلق ضحكة مدوية، وأخذ البرتقالة من يدي وأعطاها لأحد العاملين في الحديقة..
وعدت مع زميلي إلى داخل الفندق، كأنني خارج للتو من المحكمة، بريئاً من تهمة ثقيلة..