
*د. علي حداد
في البدء :
مرتْ في الثالث من شهر آب الحالي الذكرى الخامسة عشرة لرحيل (عبد الوهاب البياتي) الشاعر العراقي والعربي البارز، وأحد أركان ريادة التجربة الشعرية الحديثة، تلك الريادة التي أغدقت مياه الحداثة ووعيها على المشهد الشعري العربي المعاصر، واستفزت حواضنه التقليدية ـ فكراً وممارسة ـ ورجت ركونها التعبيري المستكين إلى طمأنينة مستعادة لاتكاد تغادرها. ولعل ما أثار عندي الاستغراب والأسى معاً أن تمر هذه الذكرى ـ عراقياً ـ من دون أن يلتفت إليها أحد، فيكتب عن البياتي مستعيداً ماتستوجبه علينا ذكراه من فروض الوفاء وقيمه. لقد صمت الكثيرون عنها، حتى أولئك المقربين من البياتي في حياته الذين أغدقوا عليه ـ وقتذاك ـ من كتابات المجاملة والتمجيد ما تجاوز الرصانة والموضوعية في تلقي تجربة البياتي الشعرية وتبيان ما لها وما لغيرها. وإذ تأتي السطور اللاحقة في سياق تأشير بعض ما كان من مواقف هذا الشاعر الوارف العطاء وتأثيث مساحة التيقن بلجاجات الذكرى والاقتراب الحميم منها والاستعادة لوقائع ما تزال شاخصة الحضور عنه، فاني لم أرد لها أن تكون استفاضة نقدية عن البياتي وشعره بقدر ما هي لذائذ من الانهمار الشعوري الذي يستعيد حضوره، ويفيه حقه من خلود الذكرى.
(1)
ما أن يعلن عن صدور ديوان جديد للشاعر (عبدالوهاب البياتي) أو كتاب عنه حتى أشغل بترقب نسخة منه تأتي إلي مضمخة بروعة ود البياتي لأصدقائه ومحبيه. ولم يكن المبدع النبيل ليتركني إلى الانتظار طويلا فسرعان ما يشرق ذلك الكتاب أو الديوان في بريدي الذي ما انقطع مدده الإنساني والإبداعي بيني والشاعر الكبير، منذ ذلك اليوم الذي ذهبت فيه إلى مجلسه في (الفينيق) بعمان صيف العام 1997م، ثم مغادرته الى (دمشق)، وإقامته فيها حتى صيف العام 1999م، لترحل روحه عن منافيها الدنيوية إلى حيث عالم الطمأنينة الأبدي، تاركة جسده يتماهى مع أمه الأرض في قبره الشاخص في مقبرة (الإمام زين العابدين) (ع) عند واحد من سفوح جبل قاسيون المطلة على مدينة دمشق. كانت المفارقة المنكفئة إلى أقصى حدود الأسى أني سمعت بصدور ديوانه الأخير (نصوص شرقية) في المساء الحزين ذاته الذي نعتته فيه وكالات الأنباء يوم 3/ آب/1999م، وهو ما أبكاني بحرقة مختنقة الأنفاس مثل كل من عرف البياتي والتقاه، وامتلات حواسه بدفق الحيوية في ذائقته وذاكرته وثقافته النافذة عمقا في الأشياء والمواقف. رحت، وفي خلال لحظات التلقي المنكسرة للخبر، وبين الدمعة والذكرى والأسى المشبوب بالفجيعة استجمع أِشلاء وقائع (بياتية) خاصة أواسي الشعر بها، وهو يفتقد ذلك الوجود الإنساني الخصب الذي أشعل فيه البياتي حرائقه واحتراقاته. بالحضور المشاكس، أو بالحضور المباعد، أو بالحضور المتمرد على كينونة جسدية تغضنت ملامحها بأخاديد الرحلة المصيرية التي أوكلت الشاعر إلى المنفى بأشكاله الممتدة من الذات إلى ما حولها، لتصبح غربته زاده ودخانه الذي يشربه، وصوته الذي يغالبه السعال، وهو يواصل حكايته المكتنزة بالأسئلة وإجاباتها، في الوقت المستلب من زحام الوقائع وهي تكتب تواريخها في أصابع الشاعر وعيونه. وإذ كنت منشغلا بذلك كله، يصلني وبعد يومين فقط من وفاة البياتي الكبير ديوانه الأخير (نصوص شرقية) الذي ما كنت أنتظره في زحمة الوجع والافتقاد اللذين خلفهما لنا موته. وكانت لحظة متدافعة الأحاسيس، فيها الدهشة التي تدر دموع العين، وفيها الامتنان لشاعر كبير لا ينسى محبيه. وفيها إمساك بلحظة خاصة من اللقاء معه، وأنا أٌقرأ عبارات إهدائه: “إلى الصديق العزيز الشاعر الدكتور علي حداد، مع محبتي وتحياني… عبدالوهاب البياتي” (دمشق 25/7/1999م). لقد كان نبض الحياة طازجاً في مفردات ذلك الإهداء، حد أني شممت فوقها أنفاس البياتي ودخان سيجارته. تبدت أمامي ـ وأنا أقلب الديوان حينها ـ أسئلة ظلت تكمن كالملح في العيون منذ ذلك اليوم وحتى اللحظة الراهنة، فهل أستطيع – ومثلي من وصله الديوان بعد موت البياتي – قراءته خارج واقعة افتقاد شاعره، فأقف عند الضفة البعيدة فيه عن فكرة الموت التي تدلت ثمارا بثياب الحداد، أراها كلما أمسكت بهذا الديوان؟ وهل ستكون القراءة بالاطمئنان الشعوري ذاته الذي ينتظره القارئ، لو أن البياتي ما زال حيا معنا، يقرأ ما نكتب عنه، فيفرح أو يعترض أو يسخر أو يصمت حيادا أو إعجابا؟ ألا تمسك فكرة إن البياتي غادرنا بعيداً بقراءتنا، لتصبح مثل حجر معلق على رأس تأملاتنا، يهوى بيقينه الصلد، في كل مرة نقلب فيها الديوان، فتمر عيوننا على ما كتبه البياتي من إهداء، وعلى تاريخه الذي سابق زمانية الموت كي يصل إلينا، فلم يفلح في ذلك؟
حصل ـ ويحصل كثيرا ـ أن نقرأ شعر الشاعر ـ أي شاعر ـ بعد موته الجسدي. نشتري ديوانا له أو نستعبره، تدلف بنا إلى ذلك واقعة الموت ذاتها، أو ما تثيره الأخبار والدراسات واللقاءات المستعادة مع الشاعر الراحل وعنه، أو ما ينتابنا من فضول إنساني مباغت للتعرف جيداً على هذا الذي أصبح (ضميرا) غائباً. أو قد يكون – قبل ذلك كله – الخوف الراقد في أعماقنا من غول الموت، وهو ينهش الوجود والموجودات والبشر من حولنا، مؤجلا لحظتنا الخاصة للقائه. إن ذهاب شخصية مبدعة عن عالمنا يعيدنا إلى استحضار وجودها من خلال تمثل ما كان لها معنا من تقولات وأفعال ومنجز يشار به إليها. وذلك محض مشروع إنساني لإحياء جذوة وجود يخاطبنا نحن الأحياء، فنبعث الروح في المعنوي ـ بعد الانطفاء الجسدي للمبدع ـ ليحيا زمناً إضافيا نؤجل من خلاله الإحساس بالغياب، ولو مؤقتا، وإلى حين أن تطغى السمة التي قيل إن اسم الإنسان مشتق منها:النسيان. إن ما وقع لي مع ديوان البياتي (نصوص شرقية) كان مجانبا لذلك كله. فموت شاعره لم يكن لحظة الانشغال المؤقت بقراءته، إذ أنا أساساً لم أنقطع – في خلال السنوات الطويلة عن قراءة البياتي وتأمل مسارات تجربته والحديث معه عنها. حتى بدا لي ذلك – في أوقات – ممارسة أنانية، تريد استباق حركية الزمن الجسدي للشاعر، وهي تسير باتجاه مغاير لطماحي في الحصول على أكبر قدر متاح من ذلك المكنون الإبداعي والفكري له. وقد أفشلت مسارعة الموت لاحتواء البياتي وعداً كنت قطعته له، أن أنجز كتابا عنه، أضمنه ذلك اللقاء المطول الذي كنت أجريته معه في العام 1998م، وامتد لأكثر من ساعتين، والكتابات التي نشرتها عن شاعريته هنا وهناك، وكنت أبعث نسخاً منها إليه، قال بعض الأصدقاء، ممن كان يجالسه في الأردن وسوريا أنها أعجبته وفرح بها، وهو لم يظهر ذلك أمامي، إذ لم يكن من طبعه أن يتكلم في أمر ما يكتب عنه بحضور من كتبه. ولعلها واحدة من سمات حياء غير معلن كان البياتي الكبير عليه.
(2)
رحل البياتي عن عالمنا, ولكنه في البريد الذي بيننا كان يعيش عمرا مضافا ـ ويتنفس حضورا ممتلئا بمودة طيبة وصلت إلى مستقرها متأخرة. كان في المساحة الزمانية والمكانية التي تفصل بيننا حيا بوجوده وبمحبته وبإصراره على إهداء ديوانه لي. ومن هنا فأني أسمح لنفسي أن أعد الأيام التي قطعها الديوان، بعد رحيل صاحبه أفق حياة خصبة تواصل فيها حضور بهي للبياتي في مشاعري ومفكرة أيامي. وأنا لا أتحدث هنا عن خلود مشرأب القامة لشاعر مثل البياتي، يصنعه له جسد إبداعي لا يفنى، فتلك بداهة قول لا ينكرها إلا أولئك الذين يغطون بمنخل خيبتهم التألق الرائع للأشياء وهي تتجلى بقيم الوجود الإنساني وروعته ساطعة مع كل يوم للإبداع والمبدعين. ولكني أقف منشداً إلى لحظة مفارقة مثيرة في أن يموت الشاعر، ويصلني ديوانه بنبض تاريخية لاحقة لذلك، حتى ليبدو أمر تصديق خبر موته أضعف حجة ـ لحظة الاشتجار الروحي لفقدانه – من الدليل المادي الذي بين يدي. كان البياتي إذن ـ في المدة الزمنية التي شغلتني ـ يعيش عمره ويحترف علاقات دنيوية، ويتداول قيمه الخاصة، من مثل يقينه في إن هذا الديوان سيصلني، وسأقرأه وأبعث له رسالة شكر كما عهد ذلك مني – وسينتظره، وليس ذلك من سوء الظن بل رغبة يعرفها كل من عرف البياتي – أن أكتب عن الديوان، وأن يصله ذلك منشوراً، ليحتفظ به، وكأنها المرة الأولى التي يكتب فيها أحد عن شعره. وهي سمة أخرى في البياتي الكبير، تبدو وكأنها نزعة فيه أن يبقى شاغلا الأقلام ومالئا الصفحات. وتثار أسئلة أخرى، ظلت هي أيضا تكمن كالملح في العيون :
* فهل أراد البياتي أن يؤكد لي تلك الحقيقة التي أعرفها، في أن الفناء الجسدي لا يمس المبدعين الكبار، فأوكل إلى ديوانه الأخير أن يصدح بذلك، وهو يجيء مفعما بأنفاس الحياة واشراقاتها، لينسخ واقعة موت صاحبة من ذاكرتي؟
* هل سيوثقني هذا الديوان إلى لحظة الإبداع الخالدة في شخصية البياتي، فيعتقني من أسر لحظة الموت، أم سيجمع اللحظتين في ذاكرتي لاستعيد خبر موت البياتي، عند كل معاودة لقراءة هذا الديوان؟
(3)
اليوم، وبعد انقضاء خمسة عشر عاماً على رحيل البياتي، أقف والديوان معي، مغادراً أسئلتي تلك، لأتمسك بيقين إن البياتي حي في ديوانه (نصوص شرقية)، وهو ما يمنحني اطمئنانا لقراءته بين يدي تجدد لحظته الابداعية. يثير عنوان الديوان التساؤل عن ماهية هذه التسمية وتعالقاتها مع المحتوى فهي (نصوص) وذاك تحديد اصطلاحي في التداول النقدي المعاصر، يستوعب مجمل الأنواع والصياغات المشكلة للأدب، ليمسى مفهوم (النص) الأفق المفتوح للتعامل مع الإبداع بمرونة تكسر الضيق الدلالي لهوية ذلك الإبداع وأجناسيته، وهذا ما عليه الديوان، حين لم يقف عند شكل معين من التناول الشعري، فضم إليه قصيدة الشطرين والقصيدة الحرة والخاطرة المنثورة ذات السمة السردية، وهي تقف على قدمين من الذكرى المستفيضة. وكان الجامع لذلك كله هو الكون الشعري بتفجراته اللغوية، وبالجرأة في استحضار ما اختزنته الذاكرة اليقظة للبياتي، وهو يقتنص من المتميز الراقد في أعماقه. إنها (نصوص) أعلنت عن فيض محتواها إلى ما هو خارج القصيدة شكلا، لتجيء تشظيات مختلفة لذات الشاعر، جمعتها أصرة الأنشداد إلى بوح الذكرى. وهي (شرقية) أي إنها تقف لتستحضر مناخاتها الخاصة وفضاءات إنتاجها مما هو في العمق من تجربة البياتي، وما يكتنه وعيه من اهتمامات، أسفرت عن وجودها كثيراً في دواوينه السابقة. إنها رموز وأسماء وأماكن أتقن البياتي محبتها واحترف استنطاق محمولها الروحي في قصائد كثيرة، وهو يستعيدها هنا ليرسم بها جغرافية المكان وتشكلاته الدلالية العابقة بالسحري والمتخيل أو بالواقعي النادر الذي يستفز خمود الذاكرة ويعيدها إلى صوبتها الأولى. لقد عاد البياتي من رحلته الأخيرة مع الشعر في هذا الديوان، لا ليحكي لنا ما لم يقله سابقا، بل ليكشف عن كثير مما خبئه من رحلات سندبادية سابقة له، إنها استعادة لكسر من الحنين والشوق ألقت بنفسها بعيداً في ذاكرة الشاعر، وها هو يقلب كنوز أيامه الماضية، فينفض الغبار عن أشياء بسيطة ولكنها مستفزة، مباشرة ولكنها تفضي إلى تأول شعوري مثير، صغيرة بحجم تشكلها اللفظي أو بمسافة حركيتها الزمانية ولكنها صيرورة من العمق التعبيري المتوهج بعلائق ذات الشاعر وفضاءاته المكانية والعاطفية. وهكذا راحت (النصوص الشرقية) تترى مشكلة من حركية عابقة في المكان الذي مر به البياتي وهو يقطع فيافي القصيدة: (مكة، دمشق، بغداد، حوران، تدمر، بخارى) أو من فاعلية الرصيد الزماني للشاعر وهو يكسر – كما عهدنا بالبياتي – جرة اللحظة الراهنة لتنساح أزمنة متشابكة، تفضي بنا إلى اللامحدود منها أو المختزن زمانية مطلقة.
كما تتجلى الفاعلية الحيوية في نصوص الديوان وهي تتكثف في حوار الشاعر مع شخصيات ورموز مشرقية ذات صيت ذائع: (أبو تمام، المتنبي، أبو العلاء المعري، حافظ الشيرازي، محيي الدين بن عربي) وسواها من الشخصيات. وكان للمرأة (الشرقية) حضورها في الديوان، وهي تمشي على مياه زمانية، تتفجر تحت قدميها بالحسي والغرائبي، والذكرى التي تخص البياتي، حين يتدله في محاريب جمالها، أو حين يتمرد على سطوتها. وما يغلب على صورة المرأة في هذا الديوان أنها ليست ذلك الوجود المطلق الذي أختزنه شعر البياتي، وجوداً مرمزا له بأسماء متعددة، انتهت به إلى (عائشة) مرتكز الحيوية الأنوثية عنده. إنها هنا امرأة من دم ولحم وبساطة وعنفوان في الرغبة والاشتهاء، تسفر عن استجاباتها أو رفضها للشاعر أو سواه من دون موارية أو زيف. إنها امرأة (شرقية) متلفعة بتكوين إنساني تنهض به قيم مجتمعها الشرقي وعلاقاته. لقد كان البياتي، وهو يتنفس الحنين إلى شرقيته في آخر أيام إقامته الدنيوية، لا يقف رائيا محايدا يحكي عنها بتوصيف المتموضع في خارج لحظة التذكر بل يندس في تلك العوالم، ليتماهى مع توهجها العاطفي، فيصبح هو ذاته تكوينا شرقيا، حمل ذكرياته وزوادة شوقه، ليلقي عصا ترحاله في المساحة الخصيبة التي يمتاح منها ما يوازي عمرا من الرحيل والاغتراب والاحتراق الذي شكل البياتي تاريخه الإنساني من خلاله. لقد ازدحم هذا الديوان بكل ما هو شرقي من الأعلام والمدن والوقائع وضجت في طياته رائحة بخور الشرق وأسراره وحيوية أزمنته، وهي تعيش معاناة البحث عن أمل مفتقد وتضافر فيه الشعر بالذكرى وبالنبوءة التي استشرف البياتي فيها لحظة الخاتمة عن رحلته مع الشيخ (محيي الدين بن عربي) إلى مكة، ووقوعهما سوية في عشق (عين الشمس) ومفارقته له سنوات طويلة، والتقائه بسواه من الصوفية، ثم عودة الاثنين معاً ـ وفي سفر أخير ـ إلى دمشق، لغاية لخصها البياتي في واحد من نصوص هذا الديوان:”لكي أموت، وأدفن إلى جواره”. غير أن الأمر لم يكن كما أراده البياتي، إذ لم يتح له أن يدفن في جوار ابن عربي ـ كما سبق أن أسلفنا ـ ولعله ـ وفي استدراك متأخر أورده في آخر النص نفسه ـ قد تنبأ بذلك:
ويظهر أن أحداً ما
قد نبش قبري وأزاله
ودفنني في مكان اخر
لا أعرف أين هو!
ولكننا نحن الذين تعلقنا بالبياتي حياً وراحلاً، نعرف أين رقد أخيراً..
________
*المشرق العراقية